هدير طارق البدوي
هدير طارق البدوي

د

في حجرة طبيب نفسي

نحن عائلة لا تذهب لأطباء نفسيين، فنحن نعيش في أفضل المنازل، نأكل أفضل الطعام، ونلبس أغلى الملابس؛ هذا ما كبر معظمنا عليه، فقد كانت فكرة الطبيب النفسي هي وصمة عار يوصم بها من يفكر مجرد التفكير في احتياجه إلى طبيب، كما سيفكر ألف مرة فيما سيراه الناس، عائلته وأصدقائه الآن، زملاء عمله ودراسته مُستقبلًا، وحتى هؤلاء من لا تربطهم به علاقة في الحي الذي توجد به العيادة أو أطباء الصيدلية التي سيشتري منها الدواء.

تشرّبنا خرافات كأن العلاج بالكهرباء هو الحل الوحيد لعلاج المرض النفسي، وأن الأطباء النفسيين ما هم إلا مشعوذون حيث أن تحسين علاقتك الروحانية هي العلاج الأمثل، أو إنهم نصابون يطالبون بالأموال دون رؤية تحسن ملحوظ، ويضخونك بأدوية لا تحتاجها فقط لتستمر بالمجيء إليهم، أو أن المرض النفسي هو درب من الجنون.

تحكي س ذات الثمانية عشر ربيعًا عن زيارتها الأولى لطبيبتها: وجدت رسومها أعلى مائة جُنيهًا عما أُخبرت به، ولأنني لا أتحرك من منزلي بدون أموال إضافية دفعتهم، دفعتهم عن طيب خاطر فقد كنت أعاني لفترة حتى أستجمعت شجاعتي وقررت الذهاب.

كانت العيادة بعيدة عن مقر سكني فجائت احدى صديقاتي معي، كانت العيادة مزدحمة ففتحت كتابًا لأقرأه إلا إنني لم أستطع أن أكمل صفحةً واحدةً، لم أستطع التركيز. حينما نادت مساعدة الطبيبة أسمي سألتني صديقتي: “هل آتي معكِ؟” شعرتُ حينها أنني فأر تجارب، شعرت أن صديقتي ترغب باستكشاف هذا العالم الجديد والذي لم تستجمع هي شجاعتها لتطأه قدماها، لم أُرحب بالفكرة ودخلت وحدي.

بعد نصف ساعة مع الطبيبة أزاحت دفترها جانبًا وأخبرتني _كأم تُحدث ابنتها_ أنني لا أعاني من أي مرض نفسي، أن ما أمر به ما هو إلا دلع بنات، تحديدا بسبب المرحلة الانتقالية التي أنا على وشك بدئها، فقد أنهيت مرحلة الثانوية العامة للتو؛ كانت هي سبب صدمتي الأولى في الطب النفسي وأطبائه، فأنا أعلم ما أمر به، وهو ليس دلع بنات!

تحكي ص ذات العشرين عن تجربتها، كانت ص في منتصف سنوات دراستها الجامعية حين شعرت بالحاجة للعلاج النفسي، لأنها تعلم كيف يفكر ذويها وما سيكون رد فعلهم أختارت ألا تخبرهم، وعلى الرغم من يُسر حالهم قررت الذهاب للمستشفى التابع للجامعة، فهي لم تكن ستتحمل نفقات العلاج والدواء من مصروفها الشخصي.

لم تكن المستشفى قليلة النظافة ولم يثبط مظهرها العام من عزيمتها على الاستمرار بالرغم ما كانت قد سمعته عن العلاج الحكومي، لم تُسء الممرضات معاملتها، ولكنهم طالبوا بالعديد من الأوراق والاثباتات لذا لم تتمكن من رؤية طبيبها في هذا اليوم، حتى تستكمل أوراقها.

في زيارتها التالية لم تُكمل جلستها مع أطبائها الثلاث أكثر من عشر دقائق، كان عدد الأطباء أكثر مما يمكن لشجاعتها أن تتحمله، وكذلك بسبب عدد المرضى المنتظرين خارج حجرة الكشف، والتي كان بابها مفتوحًا لسبب لم تتمكن هي من استيعابه أنهت الجلسة سريعًا وذهبت، انتهت جلستها بكتابة ثلاثة أنواع من الأدوية وتحديد ميعاد الجلسة القادمة لتكون بعد شهر.

أخبرتني ع عن زيارتها لطبيب نفسي أشادت به احدى صديقاتها، كانت تأخذ والدها معها في كل زيارة، والذي كان بعد كل زيارة يخبرها عن عدم احتياجها للذهاب لطبيب، فهي ليست كمن يراهم في غرفة الانتظار، كما يخبرها عن أن هذا الطبيب ليس جيدًا كما ذاع صيته، فهو لا يعطيها الثلاثين دقيقة كاملين على الرغم من انها دفعت مقابلهم.

في حجرة طبيبها كان يتبع معها ما أطلق عليه “العلاج بالفن” كان يتحدث معها بينما يترك في يدها قلمًا وورقة لترسم ما يأتي في عقلها، في أحد المرات رسمت فتاة بفستان، أخبرها أن هذه الرسمة هي الكيفية التي ترى بها نفسها، لم تصدقه. في مرة أخرى أخبرها أن تشاهد فيلم “Eat, Pray & Love” استمتعت بمشاهدته، لكنها لم تفهم المغذى، ولم يشرحه هو لها، ريما إن أكملت جلساتها معه كانت ستتمكن من استيعاب مغذاه، لكنها لم تفعل.

أما عن م والذي مر من عمره ما يزيد عن عقدين ونصف الثالث فيقول: إنه شخص معروف بالتزامه بمواعيده وقد أعجبه ذلك في طبيبته، فهو لم ينتظر كثيرًا حتى تمكن من الدخول، أستغرقت جلسته معها ما يزيد عن الثلاثين دقيقة المتفق عليها والتي تمكنت خلالهم طبيبته من استخراج ما يكفيها من المعلومات والتي كانت أكثر مما كان في نيته أن يبوح به، كانت هناك ابتسامة على محيا طبيبته والتي شجعته على الثقة بها.

تحدثت معه عن حالته بالتفصيل، أخبرته عن السبب خلف كل سؤال قد طرحته، والنتيجة التي اهتدت إليها من إجابته. أخبرته عن طريقة العلاج التي ستتبعها والمُدة التي يجب أن يرى بعدها تحسُنًا.

أعتقد أن الأمر لا يتعلق بمهارة الطبيب ولا كم شهاداته، أعتقد إنه يعتمد على ارتياح المريض الأولي، إن تواجد، واستمر هذا الارتياح، سيعطي هذا دافعًا ليُكمل المريض جلساته ويلتزم بأدويته وواجباته، مما سينتج عنه تحسنًا ملحوظًا.

كما أظن أن عمر المريض يُشكل عاملًا رئيسيًا في رحلة العلاج، هل تعلم أن الأطباء ليس بالضرورة دارسي الطب النفسي بل الأطباء بوجهٍ عام يفضلون التعامل مع المرضي الشباب أكثر من الأطفال، يتعلق الأمر بقُدرة المريض على شرح آلامه ومعاناته فيتمكن الطبيب من الوصول للتشخيص وتحديد العلاج المناسب أسهل وأسرع مما كان سيفعل مع المرضى صغار السن، كمان إنه سيوفر على المريض الكثير من المعاناة.

إنه رحلة.

العلاج النفسي رحلة طويلة، قد تستمر لسنوات، ربما ستحتاج لعدة أشهر لتجد المكان المناسب والطبيب المناسب، وغالبًا ما ستحتاج لعدة أشهر بعدها حتى تبدأ في رؤية تحسن ملحوظ، ستُجرب عدد من الأدوية باختلاف أنواعها وتركيزاتها، وستمر بأيام لا ترغب فيها بالاستمرار.

هو رحلة ستسهلك المال والطاقة، ستتطلب إخلاصك، ستحتاج أن تعد بالاستمرار والمحاولة بالرغم من الفشل، ستدفع نفسك لتستمر، ستضغط عليها في بعض الليالي لتنفيذ ما يتطلبه الأمر وإن كان ثقيلًا على قلبك، ستُعاني من إخفاء الأمر حتى عن المقربين إليك، كما ستُعاني بعد إفشاء السر من نظراتهم وحُكمهم وتهكمهم.

سيسألك طبيبك عن وجودك في حجرته وستعاني في استجماع الكلمات المناسبة، سيسألك عن أعراضك وستضطر لاسترجاع ذكريات كنت قد أجبرت نفسك على نسيانها، كما سيسألك عن آخر مرة أحسست فيها إنك طبيعيًا وسيكون هو أثقل الاسئلة التي تعرضت لها أثقل حتى من سؤال مسئول الموارد البشرية “شايف نفسك فين كمان 5 سنين؟” سيسألك عن دائرتك المُقربة وستكتشف أنه لم يبق أحد!

إنه رحلة، لكن ألا تستحق؟