محمد موافي
محمد موافي

د

لماذا يدخن المثقفون؟

كنتُ دائمَ البحث عن صور الكُتَّاب المحتفى بهم عند المثقفين؛ لأنشرها مع اقتباسات من كتبهم التي لم أقرأ، وفوجئت مرة بصورة لأحدهم، والسيجارة بين إصبعي يده اليسرى، ولكنّي لم أكترث، فقلت لنفسي: إنما هي مفبركة، ونشرت الاقتباس، وأصبحت أعرف غير واحد من المثقفين عن قرب، ووجدت يدخن هو الآخر، فأيقنت أن الصورة لم تكن مفبركة، ولم يكن هو المدخن الوحيد من الكُتَّاب، ولم تمنعه ثقافته من تعفير النيكوتين المفلس للصحة والمال، أو للمال والصحة، وفي ساعة أنُس، وأنا أقرأ كتابًا لا أفهم معظمه، سألت نفسي: لِمَ لم أكُ من المدخنين؟ ولِمَ يدخن المثقفون؟

لا وزارة للصحة بعد اليوم

متى ذُكر المثقفون، ذُكر مسعاهم إلى التغيير والتجديد، ومتى التجديد والتغيير، ذُكرت الثورة على كل ما هو ثابت ومقرٌّ صحيًّا واجتماعيًّا، إذًا فالمثقف الحقُّ هو الثائر على كل ما يقيد حريته، حتّى ولو نجم عن ثورته أيُّ ضرر صحيّ، ولكن من قال إن الصحة الجيدة أمر عاديٌّ لا بُدَّ منه؟ ذلك موروث قديم، اخترع؛ ليُغفل الناس عن التغيير، ولأن المثقف الحقَّ هو قائد الناس، فهو أول من يبدأ بالتغيير، فيبدؤه من نفسه، ويدخن؛ لتبدأ حلقات مستمرة من التجديد.

طاقية الحكيم أولًا

شاع ارتداء الكاسكتات بين جماعة المثقفين الجالسين على المقاهي، يتأملون جمال النسبة الذهبية في لوحات العصر الوسيط، وتشبه الكاسكتات المقصودة الطاقية التي ارتداها توفيق الحكيم، وكانت علامة مميزة له، وكذلك الكاسكتات والسجائر هي علامات تميز المثقفين الجدد، استلهم بعضهم ارتداء الكاسكتة من الحكيم، واستمد المدخنون منهم شرب السجائر من المدخنين من الكُتَّاب؛ إذ ظنوا أنهم سيصبحون أدباء مثلهم، بالسيجارة لا بالقلم والورقة، ولما مر الزمان، وولى عمرهم، وبان ما بان، لم يستطيعوا التخلي عنها؛ فأصبحت أصابع أيديهم اليسرى لا تقوى على ألا تحمل سيجارة

حتى أنا فكرت مثلهم، وقررت أن أشتري طاقية كطاقية الحكيم التي غطت كل رءوسهم؛ لأن مرض الحساسية أعياني من شرب السجائر، وحرمني من أن أكون مثقفًا ظاهريًّا، وخاب أملي في أن أحافظ على بعضٍ من الثقافة الظاهرية بأن أرتدي طاقية مثلهم؛ فرأسي كبير، لا تسعه طاقية أحد.

التدخين كمهرب

يصف عبد الله العروي المثقفين بالبؤس، وإن لم يكونوا بُؤَّسًا، فمن سيكون كذلك، والبؤس لا يروح إلا بالتدخين، فما بالك أن تجلس مريحًا ظهرك، وتخرج لعناتك للعالم مع كل نفس، فإن لم تجرب، فلا تسأل: لماذا يدخن المثقفون؟ وأنا لم أجرب، إذًا، فلن أسأل ثانية.

المثقفون كسائر الناس، لهم هواهم، والثقافة لا تمنعهم عن التدخين، وعلى كلٍّ، إن كان التدخين مفيدًا، فهم يدخنون، وإن كان مضرًّا، فهم يحرقون التبغ. وكذلك، أصبحت علامة مميزة لهم، ومن ثم، أخذت ألتمس العذر لكل مدخن، حتى ذلك الصغير الذي جلس بجواري، ورفع رأسه من أمام هاتفه، وهو ينفخ دخان سيجارته في الهواء، ثم نظر إلي، يسألني: “ماذا تعني كلمة “يجعل”؟”؛ عسى أن يكون قد بدأ طريقه الثقافي بالسيجارة، ثم تأتيه الثقافة نفسها فيما بعد.