آلاء عمارة
آلاء عمارة

د

مهلًا أيها الزمن.. ما زلت طفلة!

في سن الطفولة، كنا ننبهر بقدرات الكِبار، فقد كانوا يحظون بالعديد من التصريحات الممنوعة على الأطفال. إنها تفاصيل بسيطة، لكنها تنال إعجاب صغير الإنسان، ذلك الطفل المتفائل الفضولي، المنطلق في الحياة ويريد استكشافها مدفوعًا بقلب يحمل حماسًا ونشاطًا. 

ويمر الزمان كالحلم السريع

آلاء؟ نعم، لقد أصبحتِ في العشرينيات. ماذا؟ كيف؟ متى حدث ذلك؟ يأتيني الجواب..إنه الزمان يا ابنتي. مهلًا، تجاربي بسيطة يا أمي. ما زلت طفلتكِ، حتى اليوم أهرب من العالم إلى أحضانك..كيف سأواجه هذه الحياة وحدي؟ وقتها بكيت، حزنت لأنني أكبر، وزادت حرقتي عندما أخبرتني أمي أنها ستتركني في هذه الحياة وحدي يومًا ما، وعلي الاعتماد على نفسي. كانت تجاربي في الحياة قليلة للغاية، حتى ما مررت به تجاوزته بسذاجة الطفل الذي يسامح وينسى الدرس أو الحكمة وراء هذه التجربة، ولا يتعلم. أردت أن أصرخ وأقول: “مهلًا أيها الزمن..ما زلت طفلة!”

تجاربنا فرضت علينا النمو 

أدركت مؤخرًا أنَّ أغلب الانتصارات مصحوبة بآلام خفية لا يراها سوى المنتصر، قد يتمثل هذا الألم في تجاهل الراحة والاسترخاء أو تقديم بعض التنازلات الاجتماعية، لكن أشد هذه الانتصارات قسوة وألمًا تلك التي يفيد معناها مصطلح “التجاوز”، أو بعبارة أخرى، الانتصار على الآلام. 

الحياة مدرسة، سمعنا هذه الجملة كثيرًا، لكن لم يُدركها سوى اثنين: الشخص الواعي والمتألم. أما عن الأول، فقد مر بتجارب كثيرة وقرأ كثيرًا، عمل على ذاته وسعى لاستكشاف الحياة وفهمها. والثاني هو مَن مرر المواقف مرور الكرام ولم يقف ويُفكر جيدًا. أجل، لقد تعامل بسذاجة الطفل الذي يظن أنه موقف واحد وسيمر. لا يعلم ذلك المسكين أنّ الحياة لن ترحمه حتى تُجبره على النمو. 

أتذكر في سن الطفولة، كانت أمي تصحبني كثيرًا للحصول على لقاحاتٍ مختلفةٍ. لا أُريد تذكر مذاقها، لقد كانت مرّة. لكنها ضرورية للحفاظ على حياتي من الأوبئة المتربصة للأطفال. كذلك الحياة، تُعطينا جرعات مرّة من التجارب كل فترة. لكن لماذا؟ هل قسوة منها؟ ربما، لكن الأكيد، إنها تحمينا أو تساعدنا لنحيا. 

الحياة كالأم، إنها بداخلنا بشكلٍ طبيعي، تدفعنا للبقاء. هل فهمتني؟ أجل، أقصد غريزة البقاء. ستُطالب بها حتى الموت، ستدافع عنها وستَتمسك بها، لأنها جزء منك. لكنها باهظة الثمن يا صديق. وثمنها ليس عملة نقدية، وإنما ألم وحكمة وصبر ووعي. ستتحمل آلامك وحدك، ربما تجد من يمد لك يد العون. لكن تذكر جيدًا، لن يستطيع أحد ترميم داخلك مثلك. 

ما الحل إذًا؟ الكتمان؟ إنه يمزق الوجدان، حتى يتسلل إلى أعماق الإنسان، ويصل إلى الأجسام ويُذيقها طعم الخسران..إنه مؤلم يا صديق، مؤلم لدرجة أنه يُدخل المرء في حالة أشبه بالثقب الأسود..إذ يتوه المرء ويتجرد تفكيره من قوانين الزمان والمكان، لا يرى سوى اللون الأسود، يُفكر كثيرًا. ضوضاء تزعج عقله ليلًا نهارًا..أشفق كثيرًا على ذلك الكتوم الذي يُكابر ولا يبكي..لا يحكي ما بداخله..ليس بالضرورة لصديق أو أم أو أب أو أخ..بل مع الرب العظيم..

رجاءً لا تدفع عمرك ثمنًا لآلامك

يجب أن تتجاوز آلامك، الحياة لن تقف لك. فقط ستجد الزمان يمر بسرعة، قد لا تستطيع مواكبته. ستبقى في الأوهام، ظانًا أنّ أحدهم سيُشفق على حالك ويمد لك يد العون لتمضي قدمًا، لكن هذا لن يحدث. ستُصبح كسولًا، حتى تألف الوحدة والخمول وتجد في النهاية أنّ الوقت الذي طالما تمنيت مروره، هو عمرك

السعادة لحظات..استمتع بها

أنت مُجبر على الدراسة جيدًا ثم العمل ثم تَولي مسؤولية أسرة..إلخ. تبدو جميعها أمور حياتية عادية. لكن تحمل في طياتها أسمى المعاني. لا يدرك ذلك سوى مَن حُرم من إحداها أو ابتُلي في واحدة منهم. 

لقد آلفنا النعم، حتى نسينا تأدية الشكر

كطالب يشقى طوال العام، لكنه لا يفرح إلا وقت النتيجة، عندما ينتصر، لكن يا تُرى، كم واحد يستمتع بالدراسة طول العام ويُدرك أنّ فرصة التعلم لم تُتاح لغيره؟ كشخص يعمل في أي قطاع ودخل في دوامة روتين العمل الممل. غالبًا ما يفرح في نهاية الشهر عند استلام الأجر. لكن هل شكر نعمة أنه يعمل ويضمن دخلًا ثابتًا وهناك مَن لا يجد عملًا؟ ليس كثيرًا. حسنًا، ببساطة شديدة. داخل كل ألم سعادة، لا يُدركها أغلبنا إلا بعد فقدها. 

يحكي لنا أحد أساتذتنا في مرحلة الجامعة عن رجل قرر تدوين ما حدث له في العام الماضي وكتب: “وصلت لسن المعاش..رسب ابني في الدراسة..مات أخي..بلع حفيدي عملة نقدية” تبدو كلماته مؤلمة، حتى أنني أشفقت على حاله. 

من ناحية أخرى، كتبت زوجته ردًا عليه: “تفرغ زوجي بعد سنوات طويلة من العمل، وأخيرًا ستُتاح لأسرتنا الفرصة للاستمتاع بالجو الأسرى..كاد ابني أن يموت في حادث، لكن الله أنقذه وهو الآن بصحة جيدة..مات أخو زوجي بالسرطان ورُحم من عذاب الكيماوي..بلع حفيدي عملة نقدية، وأثناء اخراجها من بطنه، لاحظ الطبيب ورمًا حميدًا على الوشك التحول لورمٍ خبيثٍ”. شتان بين نظرة الزوج والزوجة، نفس الأحداث، لكن زاوية الرؤية مختلفة، أليس كذلك؟ 

هذه هي الحياة. لم يعرف موسى – عليه السلام – مبررات الخضر، حتى أخبره بتأويل ما لم يستطع عليه صبرًا. لذلك قُولت، الحياة كالأم. إذا أدركتها، ستعش راضيًا. وستُعطيك ما طلبته منها، لكن صحح زاوية رؤيتك. وابحث عن مسببات السعادة وامضِ لها قدمًا. لا تخجل من إظهار طفولة قلبك، طالما عقلك ناضج. لا تقس على نفسك وتجلدها. واستمع للرافعي عندما قال: 

أفتدري ما السعادة؟ طفولة القلب.