علي حمدون
علي حمدون

د

أن لا تموت “افْتِراضِيّاً”


فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي 

فدعني أبادرها بما ملكت يدي 


طرفة بن العبد

هل ستوافق على إبقاء حسابك نشطاً بعد وفاتك ؟

وذلك بسبب توصل العلم -الذكاء الاصطناعي- لتطوّرٍ ذكي، ذاتي الإدراك، يدرس بخوارزمياته فكرك، مزاجك، كتاباتك بل وأنه يتنبأ باعتناقاتك المستقبلية، واعتقاداتك وهي تتبلور اتجاه السياسة والدين والقضايا الإنسانية والاجتماعية. ومن  هذا المنطلق ستنتشر أفكارك المتوقعة وفقاً لأخلاقياتك الواضحة ومبادئك !

كنت قد نشرت هذا السؤال كافتراضٌ جدلي، من خلال تغريدة استفتائية عبر تويتر، فأجاب الأغلبية بالرفض، فالفكرة برأيهم كانت تبدو غير أخلاقية من حيث المبدأ،  كرفض المجتمعات المتحضرة  والمتقدمة لفكرة الاستنساخ البشري مثلاً !

مع ذلك بقيت التساؤلات : ما الذي منعهم من تقبل هذا الخلود، قناعات غير حقيقية شاركونا إياها، زيف يخشون أن  لا ينعتقون عنه، اعتقادات لا يؤمنون بها، تصنع لا يودون الإبقاء عليه، توجس من تبلّد فرانكنشتايني !

تساؤلات عدة تناسيت أمرها مع الوقت، حتى وجدت وفي أحد الأيام استفتاء مشابه  للذي وضعته، تغريدة لشاب كندي كُتِبتْ بصيغة تنقصها ريبة مفرداتي التضخيمية المتسببة بالإحجام والنكوص فلم يكن هناك ذلك الرفض القطعي بتغريدته، فالأغلبية المتفوقة بشكلٍ طفيف كان لسان حالها  يردد دعوة  لقمان بن عاد حين دعا ربه قائلاً :  اللهم يا رب البحار الخضر والأرض ذات النبات بعد القطر  أسألك عمراً فوق كل عمر.

أدرك بداخلي بأن هذه الأوبة الافتراضية لعملية المحاكاة الفكرية تحتاج  إلى تأملات أنطولوجية لِتُفنّد أو تُثبّت مخاوفنا حيالها كقرار تخليدي مُحيّر،  فاعتيادنا على الإرث الالكتروني غير النشط  يعتمد على تحليلاتنا حيال ما هو مكتوب، فقد نبني  من خلال  تغريدة كتبها مُفكر -متوفي-  تأويلات ذات دلالات ظنية، ولكن ليست قطعية. قد نتنبأ برؤيته حيال  قضية ما بناءً على المعطيات الواضحة كنسبه، وعرقه، وجنسيته، أو مواقف حدثت لغيره  فعقّبَّ  عليها  أو مواقف سابقة له كان  قد دوّنها،  أو حتى مزاعم أتضح بِأنه كان مناهض  لها أو مؤازر.  بالطبع شهدنا من قبل على آراءٌ حطت من قدر من كانت له  مكانة  بالأمس، وآراءٌ رفعتْ من  شأن من كان حقيراً  بأعين  مخالفيه. ولكنَ اعتقاداتنا حيالها تبقى ظنية  لعدم وجود صاحب الفكرة  كإنسانٍ يخضع للمتغيرات.

وذلك يختلف تماماً عن حضور الميت بذهنية نشطة يكاد لها أن  تكون حقيقية.  يحضر بآرائه حيال أزمات اليوم، بكلماته الرنانة، بمفرداته المعتادة،  بمبادئه -إن امتلكها- والتي قد تكون هي المشكلة الأساسية، فللمبادئ  حدودٍ  ضميرية وضوابط أخلاقية ثابتة كجلمود  الصخر، فهي ليست فضفاضة ومرنة  ولينة كـ الانتماءات والولاءات. فالانتماء مثلاً قد يتلوّث بأسم التحضر ليتماهى مع الواقع،  قد يشذّب ويُملأ  بالتناقضات والتنازلات بناءً على مصلحة بقاؤه بالمنافسة  أو حتى ليبقى كالغائب الحاضر.  فوجود المبادئ يُسهّل من عملية الإبقاء على نهج متفرد لا يتأثر بالانقلابات الزائفة !

أما ما هو مؤرق بالنسبة لي هو ربط الذكاء  الاصطناعي بغياب الغريزة  البشرية إذ يصعب كما يقال استنساخ السجية والرغبة  الفطرية، فلو افترضنا غياب غريزة البقاء من  المناضل المتوفي  صاحب الآراء الحادة لعدم  وجود حياة يحاول الإبقاء عليها لينأى بنفسه عن المخاطر والتهديدات.

فما سَيُكتب من بعده تنبؤياً سيكون غير خاضع للمؤثرات الترهيبية، سيكون صداع أبدي وشقاق لا ينتهي. مع ذلك سَيُبقِي هذا الخيار على حيوات البقية من أشباهه، كرادع وبديل لا يفضله خصومهم.

ولكن يبقى هذا القرار -المتخيل- أيضاً مقبولاً نسبياً لمن أكتشف جوهره الفكري متأخراً، لمن أدرك بأنه  يحتاج إلى أكثر من حياة ليعبر فيها،  لمن تنطبق  عليه أبيات عبدالمسيح بن بقيلة والتي قال فيها :

حلبت الدّهر أشطره حياتي ونلت من المنى بُلَغ المزيدِ

وكافحت الأمور وكافحتني فلم أخلع لمعيتها برودي

وكدت أنال في الشرف الثريا ولكن لا سبيل إلى الخلودِ

وخياراً مرفوضاً لأسباب عدة كالخشية  من موت المدلسين وهم مختارين لهذا القرار.  وهنا يتحول الرفض إلى نزاهة  وتضحية تتفوق على كافة المبررات الداعمة لهذه الميزة.

عموماً …

 جميع ما ذكرته أعلاه مبني على مخاوف قد تكون متوهمة وقد تكون مبنية على ابتكارات تقنية تتطابق  مع الفكرة المريبة كتطبيق replika مثلاً والذي أبتكرته فتاة تدعى يوجينا كيودا لتعوّض  خسارتها  بوفاة  حبيبها،  لتعيد  إحياءه من خلال رفع سجل محادثاته معها، وكتاباته. فنجحت  بخلقها الزائف، ففتحت  المجال  على نطاقٍ  واسع ولكن  بشكلٍ  عاطفي، ماذا لو خرج عن  هذا  الإطار وارتبط  مثلاً بحساباتنا على تويتر !

ملاحظة :

أعتقد بأني تحوّلت من بعد هذه الثرثرة من شخصٍ قابل للإذعان لهذه الفكرة، إلى شخصٍ ممتنع ومعارضٍ عنيد. رغم أنها لم تُطرح بعد. إلا أن هذا البعث الافتراضي العبثي المتوهم بسبب ظهور بعض البوادر الدالة على احتمالية حدوثه، يجب أن يُعامل كخرافة حقيقية نقابلها بالإلحاد، خرافة تتناسب مع قول الشاعر :

حَيَاة ٌ ثُـمَّ مَـوْتٌ ثُـمَّ بَعْثٌ

حديثُ خرافة يا أمَّ عمرو.