ياسمين غُبارة
ياسمين غُبارة

د

“صفر ع الشمال”

“صفر ع الشمال”…
قالها لي أخي يومًا فى إحدى تلك الجلسات التى كنا نمارس فيها هوايتَنا باسترجاع الماضي وتحليله، وعندما تطرقنا إلى طريقة تعامل أبي مع أخي فى موقف بعينه؛ شَردَ قليلًا وعبّر عن شعوره وقتها بالضيق، وبأنه كان يحتاج فى ذلك الموقف إلى رد فعل مختلف من أبي، وأنه لم يفهم حتى الآن لماذا فعل ذاك أو هذا!

ولا أعتقد أن هناك شخص لا يمتلك على الأقل بعض التحفظات على تصرفات والديه معه فى سن معين، ولكن فاجأني أخي بعد كل هذا الحديث بأن ربت على كتفي وهو يغادر وقال: “سيبِك إنتِي .. كل ده صفر ع الشمال”.
غادر أخي وترك في ذهني إدراكًا لامعًا عن ذلك “الصفراللي ع الشمال”.

وجدت نفسي أتمني أن أغمض عينى يومًا ويصبح كل ما يزعجنىي هو صفر ع الشمال فعلًا، أتمنى أن يأتي اليوم الذى يصبح فيه تأنيب الضمير المستمر الذى يعتريني تجاه أبنائي هو مجرد “صفر ع الشمال”، وأن أرى علاقتي بهم لها أساسٌ متينٌ كالواحد الصحيح.

أتمنى أن تزولَ كلُ تلك الأفكار حول الكون والخلق والقَدَر ومعاناة الإنسان، وأن تسود نفسى حقيقة واحدة، وهي أني مخلوقٌ لخالقٍ عظيمٍ خَلَقَ كلَ ما أعلمه وما لا أعلمه. هل ستتملكنا تلك الحقائق يومًا لنحيا بها، أم سنظل نمضي مصاحبين لتلك الأصفار التى تلتهمنا من شمالنا؟
قد تكون الحقيقة هي رهنٌ فقط بلحظاتٍ محددة كلحظات المرض، والأزمة، والفقر، والموت، كلحظات الانكسار والوجع، هل فى تلك اللحظات فقط يسودنا السكون ونرى الحقيقة ثم نعود تدريجيًا لنرسم صفرًا من بعده صفر من بعده صفر… لتمتد الأصفار على شمال حقائق الحياة!
لماذا لا نتمسك بحقيقة الاشياء!..
سيظل هذا السؤال يطاردني. طالما نعلم، طالما ندرك.. لماذا من الصعب ويكاد يكون من المستحيل أحيانًا أن نتمسك؟، أهو الصراع الأبدي فى الحياة …. صراع الإنسان مع نفسه، أم هو تأرجح بين الوهم والحقيقة؟

لكل شيء حقيقته… للعمل حقيقة، ألا وهي الإنتاج والإخلاص، ولكن حول حقيقته الكثير من اللغو واللغط والتشتت والقلق.

لعلاقتنا بأهل بيتنا حقيقة، ألا وهي البر والإحسان، ولكن يُجَانبها الكثير من أصفار الشحناء والعناد والغضب والحزن واللوم والعناد.

لعلاقتنا بالناس حقيقة الاحترام والسلام، ولكن يظل صفر الصراع والبقاء للأقوى والأعلى صوتًا يُغالبنا ويتحكم فينا. للكون كله حقيقة واحدة مركزية تنبع منها كل الحقائق كخيوطٍ ثابتة من حديد لا تتزعزع ولا تهتز على مر الزمان، ولكننا أحيانًا نراها، وأحيانًا يُداريها الغمام، ولكن هل الغمام يطفىء نور الشمس إذا مرَّ من أمامها، هل يجعل الصبح ظلامًا؟
ففي النهاية.. هو مجرد غمام، والبوصلة التي وضعها الله فينا لا تستقيم إلا مع اتجاه الشمس.