تقوى يوسف
تقوى يوسف

د

عالم غير قابل للإصلاح


“لماذا ندون حياتنا في يوميات؟ ألأنها حياة هنيئة؟ كلا، إن صاحب الحياة الهنيئة لا يدونها، إنما يحياها.”

هل الحياة عادلة والأبطال الخارقون يكافحون فيها إلى أن ينتصر الحق في النهاية ويعم النور؟
هل تلاحق الشرطة المجرمين في سعي حثيث لانتصار الحق، وتتخيلهم من أولئك مفتولي العضلات، حادي الطباع، ويسير رفقتهم شارلوك هولمز بغليونه وعقله الراجح، والأطباء بمشاعر مرهفة نحو الإنسانية والحب والعطاء؟

مع المضي بالحياة تصطدم بالواقع وما أنت فيه بل وما نحن كعالم عربي فيه، “يوميات نائب في الأرياف” قد يكون ملخصًا لهذه الاصطدامة

لا أدري لماذا شعرت بها ككوميديا سوداء، لا أدري إن كانت مقصودة أم أن الواقع بهذه التراجيدية، ستقرأها وتضحك رغم معرفتك أن لا شيء يدعو للضحك

البداية

يفيق النائب على جريمة قتل، هل هذه بداية لاندفاعة أدرينالين، ومغامرة جديدة؟ ليس تمامًا ما يفكر به النائب هو نومه الذي سيضيع، ويذهب وهو يعلم أن القاتل فر، والشاهد جاء متأخرًا فليس عليه إذًا سوى أن يكتب التقرير ويدعها تذهب في حال سبيلها
ولو أطال قليلًا لجاءته عبارة عتاب واستنكار ك:
“الله يمسي بالخير وكيل النيابة سلفك، كان يسأل في قضية القتل شاهدين فقط لا غير ويقفل محضره ويميل علي ويقول: (هو القتيل أبونا ولا أخونا؟ قم يا شيخ نبل ريقنا)”

قانون ليس على مقاسنا

من محاور التهكم في الرواية فكرة القوانين، فالقانون وجد لينظم حياتنا ويرقى بها، فهو ليس غاية لذاته بل بما يحققه، لكن حين تستورد قانونًا تتباهى به أمام أشقائك من الدول المجاورة وترضي به ماما الغرب تظهر الكوميديا السوداء وهي متمثلة في هذا الحوار:
” – أنت يا رجل متهم بأنك غسلت ملابسك بالترعة
– يا سعادة القاضي ربنا يعلي مراتبك تحكم علي لأني غسلت ملابسي
– لأنك غسلتها في الترعة
– وأغسلها فين؟
فتردد القاضي وتفكر ولم يستطع جوابًا ذلك أنه يعرف أن هؤلاء المساكين لا يملكون في تلك القرى أحواضًا يصب فيها الماء الصافي المقطر من الأنابيب، فهم قد تركوا طول حياتهم يعيشون كالسائمة، ومع ذلك يطلب إليهم أن يخضعوا إلى قانون قد استورد من الخارج على أحدث طراز، والتفت القاضي إلي وقال:
– النيابة
– النيابة ليس من شأنها أن تبحث أين يغسل المرء ملابسه ولكن ما يعنيها هو تطبيق القانون، فأشاح القاضي بوجهه عني وأطرق قليلًا وهز رأسه، ثم قال في سرعة من يزيح عن كاهله حملًا:
– غرامة عشرين، غيره”

فالأولى بالقانون والمجلس هنا أن يجد حلًا لمشكلته وإصلاحًا، وإلا فكيف يعمل القانون عمله كرادع، وهؤلاء المساكين لا يرون حتى أنهم مخطئون، وإنما ينظرون للحكم كمصيبة من مصائب الحياة التي لا يد لهم فيها ولا يملكون لها دفعًا

يسرق الفقير رغيف خبزه

في كندا أو على حسب رواية أخرى في أمريكا أو ربما برطانيا، أو أي أرض من بلاد الله الواسعة، هذا إن كانت القصة حقيقة وليست من وحي خيال الأمة الجمعي، المهم لا بد وأنك سمعت هذه القصة:
” في إحدى الدول تم تقديم رجل عجوز أقدم على سرقة رغيف خبز ليمثل أمام المحكمة، فلم يكن أمام هذا العجوز الفقير إلا ان اعترف بفعلته قائلا : “كنت أتضور جوعاً ، كدت أن أموت”.
القاضي قال له : ” أنت تعرف أنك سارق وسوف أحكم عليك بدفع 10 دولارات وأعرف أنك لا تملكها لأنك سرقت رغيف خبز ، لذلك سأدفعها عنك” .
صمت جميع الحضور في تلك اللحظة، وشاهدوا القاضي يخرج 10 دولارات من جيبه ويطلب أن تودع في الخزينة كبدل حكم عن هذا العجوز.
ثم وقف فنظر إلى الحاضرين وقال : ” محكوم عليكم جميعاً بدفع 10 دولارات ، لأنكم تعيشون في بلدة يضطر فيها الفقير إلى سرقة رغيف خبز”.
في تلك الجلسة تم جمع 480 دولاراً ومنحها القاضي للرجل العجوز.”

قبل أن أرى تفاؤلك وابتسامتك وبعيدًا عن صحة الحكاية من عدمه، إليك النسخة العربية أو لنقل نسخة “يوميات نائب في الأرياف”:
– أنت سرقت كوز الذرة؟
فأجاب الشيخ من فوره من جوف مقروح:
-من جوعي!
فنظر المساعد إلي وقال في لهجة انتصار:
-اعترف المتهم بالسرقة
فقال الرجل في بساطة:
– ومن قال إني ناكر؟ أنا صحيح من جوعي نزلت في غيط من الغيطان سرقت كوزا
ووقف القلم في يد المساعد ولم يعرف ما يسأل بعد ذلك، والتفت إلي يستنجدني، فنظرت إلى الرجل سائلًا
– سين، يا رجل لماذا لا تشتغل؟
– ج، يا حضرة البك هات لي الشغل وعيب علي إن كنت أتأخر، لكن الفقير منا يومًا يلقى وعشرة ما يلقى إلا الجوع
-أنت في نظر القانون متهم بالسرقة
-القانون يا جناب البك على عينا وعلى راسنا، لكن برده القانون عنده نظر ويعرف إني لحم ومطلوب لي آكل
-لك ضامن يضمنك؟
-أنا واحد على باب الله
-تدفع كفالة؟
-كنت أكلت بها
-إذا دفعت يا رجل خمسين قرشًا ضمان مالي يفرج عنك فورًا.
-خمسين قرش! وحياة راسك أنا ما وقعت عيني على صنف النقدية منذ شهرين، التعريفة نسيت شكله، ما أعرف إن كان لحد الساعة مخروم من وسطه ولا سدوه
فنظرت إلى مساعدي وأمليت عليه نص القرار:
-(يحبس المتهم احتياطًا أربعة أيام ويجدد له ويعمل له فيش وتشبيه)، اسحب يا عسكري
فقبل الرجل يده وجهًا وظهرًا حامدًا ربه:
-وماله. الحبس حلو. نلقى فيه على الأقل لقمة مضمونة، السلام عليكم.

عالم متخاذل

دائمًا ما أتريث قبل التهكم والسخرية، قد يكون المعلم متحمسًا في أول يوم عمل له، ويأتيك بأفكار والكثير من النظريات، لكن ما إن ينخرط في الحياة والعمل حتى ينطفئ ذلك البريق، وحين أراني أسارع في نقد شخصية أو كرهها، أتريث لأفكر هل كنت لأفعل ما هو أفضل؟
ورد في الرواية:
” غير أني تأملت قليلاً أمر هذا السائق… مالذي روعه؟ أهو منظر العظام في ذاتها أم فكرة الموت المتمثلة فيها، أم المصير الآدمي وقد رآه أمامه رأي العين؟ ولماذا لم يعد منظر الجثث أو العظام يؤثر في مثلي وفي مثل الطبيب، وحتى في مثل اللحاد أو الحراس هذا التأثير؟ يخيل إلي أن هذه الجثة والعظام قد فقدت لدينا ما فيها من رموز. فهي لا تعدو في نظرنا قطع الأخشاب وعيدان الحطب وقوالب الطين والآجر. إنها أشياء تتداولها أيدينا في عملنا اليومي. لقد انفصل عنها ذلك الرمز الذي هو كل قوتها.”

متدينون جهلة

أولئك الذين يحفظون الدين دون أن يفهموه، ويهاجمون العلم دون أن يقرؤوه، مستدلين بآيات لو عقلوها لكانت حجة عليهم لا لهم ومن أمثلة ذلك:
– هذا الأفندي مدرس الجغرافيا في المدرسة، ألقى فيها محاضرة علنية عن عالم نصراني اسمه شنتون قال إنه عرف بالضبط وزن الأرض والسماء….. أستغفر الله

وتأملت قليلًا الاسم الذي نطقه القاضي، واهتديت آخر الأمر إلى أن المقصود به العالم الرياضي “آينشتاين”،
– وحضرت المحاضرة يا فضيلة الشيخ؟
– حصل يا سيدي أن هذا المدرس قام وقال في حضرة المدير وكبار الموظفين والأعيان، إن هذا العالم الكافر قد أتى بما لم يأت به الأولون والأواخر، فقمت وصحت به: ( كذاب يا حضرة المدرس، لقد قال الله في كتابه العزيز (ما فرطنا في الكتاب من شيء))، ثم استمر هذا الأفندي في كلام لا هو بالمعقول ولا هو بالمنقول، إلى أن قال بأن عالمه النصراني قد استطاع بمعادلات جبرية أن يزن الأرض والسماء! فما تمالكت نفسي ونهضت وأنا أنتفض وصحت به: مهلًا يا حضرة الأفندي مهلًا، أخبرنا قبل كل شي هل هذا العالم شنتون وزن السماوات والأرض بالكرسي أم بدون الكرسي، فارتبك المدرس ونظر إلي قائلًا:
– كرسي ايه
-فرددت عليه بالآية الشريفة (وسع كرسيه السماوات والأرض)، أجب أيها المدرس الأفاك ها هنا الحاصل والجوهر، الوزن كان بالكرسي أم بغير الكرسي؟

فكتمت ضحكتي وقلت في هيئة الجد
– وأخيرًا؟
– وأخيرًا يا سيدي … لا شيء لم يستطع المحاضر أن يجيب، وغضب سعادة المدير واعتبرها إهانة لمجلسه، وترك الناس المحاضرة وهي مسألة أصلية، والتفتوا إلى اعتدائي على مقام المدير وهي مسألة فرعية

ختامًا وحاصله

هناك في تلك الدول التي تحترم نفسها، ينظرون لأرواح الناس بعين الجد، أما هنا فلا أحد يأخذ ذلك على سبيل الجد.
وإن الأموال لتنفق هنا بسخاء في التافه من الأمور، وأما إذا طلبت لإقامة العدل أو تحسين حال الشعب فإنها تصبح عزيزة شحيحة تقبض عليها الأكف المرتجفة كأنها ستلقى في البحر هباء!
ذلك أن “العدل” و”الشعب” كلمات لا زالت غامضة على العقول في هذه البلاد كلمات كل مهتمها أن تكتب على الورق، وتلقى في الخطب كغيرها من الكلمات والصفات المعنوية التي لا يحس لها وجود حقيقي.