فادي عمروش
فادي عمروش

د

تيم فيريس- قصَّةُ نجاح

إنّ الاطلاعَ على تفاصيلِ حياةِ أصحابِ الأداءِ العالي في شتّى المجالاتِ، وإمعانَ النَّظر في سيرِهم الملهِمةِ، وكيفيَّةِ بلوغهم ذروةَ احترافِهم،  ينتهي بِنا إلى أفكار رائعةٍ، ويضعُنا أمامَ تجاربَ مبدعةٍ  انتهت بهؤلاء النَّاجحينَ المبدعين إلى تحقيقِ هذه النَّجاحاتِ المُبهرة!

وتأتي قصّةُ “تيم فيريس” الكاتب الأمريكيِّ الرائعِ، ومؤلّف الكثيرِ من الكُتب القيّمة دليلًا على أنّ التميّزَ حصيلةُ الجدِّ، والاجتهاد.

ظهرَ “فيريس” في أكثر من مئةِ وسيلةٍ إعلاميّةٍ، يُمكنكم الاطّلاعُ على بعضِها من هُنا، واستُضيف في جامعةِ برينستون في نيوجيرسي كمُحاضرٍ من عام 2003 إلى عام 2013، وناقشَ خلال محاضراته ريادةَ الأعمالِ كأداةٍ لتغييرِ العالَم.

اشتُهرَ “فيريس” بقدرتهِ على التَّحدّثِ بخمسِ لغاتٍ بطلاقةٍ، ودخلَ موسوعةَ غينيس للأرقامِ القياسيّةِ في أكبرِ عدد حركاتِ دورانٍ في رقصةِ التّانغو الشّهيرةِ!

لم يكن ليستطيعَ أن يُتقنَ كلَّ هذهِ المهاراتِ، بالتّوازي معَ مسؤوليّاتِهِ المهنيّةِ، لولا اتّخاذُ منهجٍ في حياته يساعدهُ على القيامِ بهذهِ الأنشطةِ، والأعمالِ، أُطلقَ على هذا المنهجِ مصطلحَ “أسلوب حياة” من خلالِ خططٍ مُبدعةٍ، وعاداتٍ صحيحةٍ استطاع من خلالها أن يعتادَ على تنظيمِ حياتهِ بطريقةٍ تُحسّن من أدائِه العام، من خلال التّقييمِ الذّاتيِّ، وانتقاءِ المهمّاتِ التي تسمحُ له بالاستمتاعِ بالأشياءِ التي يُحبُّها.

بدأ بالسّعي إلى تطويرِ نفسِه منذُ عام 2004 أي قبل ثلاثِ سنواتٍ من أن يصبحَ كاتبًا ذائعَ الصّيتِ، في بدايةِ الأمرِ لم يكن “فيريس” يختلفُ كثيرًا عن أيِّ مواطنٍ أمريكيٍّ يعملُ فوقَ طاقته في ذلك الوقتِ، فكان عليه أن يبذلَ الكثيرَ من الجهد في العملِ ليجدَ نفسَه -فيما بعد-يعملُ ثمانينَ ساعةً في الأسبوعِ الواحد! الأمر الذي أدّى إلى توتّر علاقاتِه مع مَن حوله، وتأثّره صِحّيًّا.

وجد أنّه من الضّروريِّ أن يقومَ بشيءٍ ما من شأنهِ أن يغيّرَ حياتهِ، وبحثَ عمّا يُنقذهُ ممّا كان فيه، فقامَ ببعضِ التّغيراتِ مثلَ أتمتةِ الكثيرِ من أعماله، واستعانَ ببعضِ المصادر الخارجيّةِ، وكتبَ بعد ذلك كتابًا لخّصَ فيه تجربتَه، وشرحَ خطواتِ التّغييرِ تلك، ممّا ألهمه في النّهايةِ أن يبيعِ أعماله، ودفعه لأن يصبحَ أحدَ أكثرِ مؤلّفي المساعدة الذاّتية نجاحًا على الإطلاق.

يُشتهر “فيريس” بمنهجه غيرِ التّقليديِّ في العمل، ولكنْ هل ولِد هكذا؟ لا، كان يعيش طفولةً هادئةً، وطبيعيّةً، قبلَ أن يدفعَه اهتمامُه باللغة اليابانيّة إلى تجربةِ الدّراسةِ في الخارجِ عندما كان طالبًا في المدرسةِ الثّانويّةِ، وحينها بدأَ ينظرُ إلى الحياةِ بطريقةٍ جديدةٍ تمامًا، وأيقنَّ أنّ هناك أكثرَ من منهجٍ جميلٍ، وفعّالٍ للنّجاح، ولا يُشترط اتّخاذ منهجٍ واحدٍ كُنّا قد ألفناه فقط!

كان ذلك العام الذي قضاه في اليابان بمثابةِ تجربةٍ إيجابيّةٍ، استفاد منها “فيريس” في شيءٍ أكثرَ إفادةً لاحقًا، حينما كان قلقًا من أنّ معدّلَ درجاتهِ لم يكن جيّدًا بما يكفي للقبول في جامعةِ النّخبة، لكنّه قرّر أن يذكرَ في طلب التّقدّم إلى الجامعةِ أنّه درسَ في الخارج، ممّا يُكسبه بعضَ التّميّز عن بقيّةِ المُتقدّمينَ، وهكذا حوّل الشيء الجيّدَ إلى شيءٍ أفضل!

لم يبدأ حياتَه المهنيّة كرجل أعمالٍ، ولكنهُ بدأ بمهنةِ مندوبِ مبيعاتٍ لسنواتٍ، ونجح نجاحًا استثنائيًّا، ثمّ تركَ وظيفته في المبيعات، وأطلق شركةً للتّغذيةِ الرّياضيّة، كانت هذه الشّركةُ ناجحةً، لكن لم يزدهرْ فيها، وكانت المشكلة الرئيسة هي جدول عمله الشّاقِ، إذ عملَ “فيريس” اثنتي عشرةَ ساعةً في اليوم، وعلى مدى سبعةِ أيّامٍ في الأسبوع!

بعد ذلك قرّرَ أنّه بحاجةٍ إلى استراحةٍ ليستعيدَ نشاطه، وتوازنه، وحجزَ رحلةً مدّتها شهرٍ إلى لندن، لكنّ المفاجأةَ كانت أنّ عمله ازدهرَ في غيابه! لطالما افترض “فيريس” أنّ لوجوده، وعمله الجّاد بشكلٍ مُبالغٍ فيه الفضلَ الأكبرَ في نجاح الشّركة، ولكنّ ما اتّضح له أنّ وجوده المتواصل على رأس العمل شكّل عائقًا، ممّا دفعه إلى توكّيلِ معظمِ الأعمال للموظّفين، ومدّدَ إجازتَه، واستمتع في نهاية المطاف بفترة راحةٍ لمدّة عامٍ ونصفٍ في أوروبا، ثمّ ألّف كتابًا بعنوان “أربع ساعات عمل أسبوعياً” والذي أعتبرُهُ شخصياً منهجًا ثوريًّا في عالم الأعمال!

الأغنياء الجدد

هل سمعتم يومًا بمصطلح الأغنياء الجُدد أو “New rich”؟ ينتمي “تيم فيريس” إلى شريحة الأغنياء الجدد، ويعتقد من ينتسبُ إلى هذه الفئةِ أنّ المالَ ليس كلّ شيءٍ في الحياة، ولا يُعدّون المالَ  الدّخلَ الوحيدَ على الإطلاق، بل ينظرون إليه على أنّه دخلٌ نسبيٌّ، ويكونُ الوقتُ لديهم عاملًا أساسيًّا للنجاح، فتمتاز حياتهم بالمرونة، وحرّية الحركة، ممّا يسمح لهم بممارسةِ أنشطتهم التي يُحبّون، فيلتقون مع عوائلهم، وأصحابهم، ويسافرون، فلا ينهمكون في تجميعِ الأموالِ على حسابِ حياتهم الخاصّة، على عكس بعض الأشخاص الذين يعدّونَ المالَ الدّخلَ الوحيدَ والمطلق في حياتهم، وبالتّالي يخصّصونَ الوقتَ الأكبرَ من حياتِهم للعملِ بجدٍّ، وإرهاقٍ، غير آبهين بحياتهم الخاصّة، ورغباتهم المشروعة!

في مثالٍ جانبيٍّ يحضرني في هذا المورد، تطلبُ بعض الشّركات -وخصوصًا في أوروبا، وأمريكا- من موظّفيها ساعاتِ عملٍ تُقدّرُ بثماني ساعاتٍ يوميًّا، وأيُّ ساعةِ عملٍ بعدها تُسجّلُ عملًا إضافيًّا، وصولًا إلى عشرِ ساعاتٍ مثلًا، إن استمرَّ الموظّفُ في العمل لمدّة عشرِ ساعاتٍ أو أكثر، لا تُحسب له هذه السّاعاتُ الإضافيّةُ، وهذه طريقةٌ رائعةٌ للحدّ من الانغماسِ في العمل (وطبعًا الأرقامُ هنا فقط للتوضيح ولا يُشترط صحّتها).

لا يتطلّبُ النّجاحُ وفق فلسفة “تيم فيريس” أن يعملَ الشّخصُ لدرجةٍ يصلُ معها إلى آخر اليوم، وهو غارقٌ في تفاصيلِ وظيفتِهِ، هذا إرهاقٌ غيرُ فعّالٍ بالطّبع، ولن يعودَ على صاحبه بالنّجاحِ الذي يطمحُ إليه، بل على العكسِ تمامًا قد يؤدّي إلى صدمتهِ لاحقًا من إخفاقِهِ، ممّا قد يدفعهُ إلى الانسحابِ، أو فقدانِ الشّغف، ولا ينطبق هذا الحكم على النّاحية المهنيّة فحسب، بل يتعدّاها إلى الحياةِ بشكلٍ عامّ، لا تنشغل في تفاصيلِ أي شيء، دعْ لنفسك بابًا مواربًا للرّاحةِ، تفتحه متى شئتَ، وتستمتعُ بما تحبُّ حتّى تنجزَ ما تُحبُّ، وتحصلَ على ما تُحبُّ.

ولا يسعني إلا أن أقدّر جهود “تيم فيريس”، وأن أدعوكم لمتابعة قناته على يوتيوب التي يُشارك فيها الناسَ خبراتِه، ويقدّمُ بعضَ النّصائحِ التي من شأنها أن تساعدَ الكثيرينَ على تحقيقِ النّجاحِ المنشودِ.