عبدالرحمن عرفة
عبدالرحمن عرفة

د

قرص النيتروجليسرين الخائن

مِن العار أن يحاول أحدٌ ما أن يكتب مقال أو تدوينة للكلام عن وفاة أحد الكتاب الذين احترفوا خطّ التدوينات وسطر المقالات! الذين أجادوا الوصول لقلب القارئ قبل عقله! الذين رصفوا الكلمات بتشكيلات سهلة سلسة الفهم بالرغم من احتوائها على قدر كبير من المعاني المهمة القيّمة.

لذلك لن نتكلم بشيء هنا، فالمرحوم القدير لا توجد كلمات ولا مقالات ولا تدوينات تفيه حقه عن كل ما بعث في الأدب العربي من نكهة خاصة ميّزته، لا سيما في موضوع الرعب الذي كان أقرب للذة من الخوف! بل سأقوم بتوجيه عتاب صغير لأحد ما لابد من معاتبته.

قرص النيتروغليسرين! نعم، إنه القرص الذي حمى رفعت إسماعيل آلاف المرات من أزمة قلبية وشيكة الحدوث، القرص الذي تدخّل في أسوء المواقف لكي يقول لقلب ذلك الكهل الواهن أن اشتد فلا وقت الآن كي تتوقف! القرص الذي كان كأكسير الحياة في المواقف التعيسة، يبدو أنه الآن قد قرر أن يرتكب خيانة ليسَ بحق رفعت هذه المرة، بل بحق من أوجد شخصيته من الأساس.

استغرب كيف أنه فعل ذلك، كيف أنه لم يتدخل، كيف أنه لم يعبر الفجوة بين عالم الخيال وعالم الواقع لكي يحمي صاحبه، لا سيما أن المسافة بين رفعت وبين توفيق مسافة صغيرة تتلاشى عند فتحك أحد كتبه أو رواياته.

أؤمن أن هذا القرص كان يعلم الحقيقة الكونية التي نجهلها جميعًا، الحقيقة التي تقول أن لكل إنسان في هذه الحياة دور، وبمجرّد أن ينتهي هذا الدور يموت حتى لو كان في عمر العشرين!

هذا ما أعتقده كسبب لموت كاتبنا القدير صاحب الـ 55 عام. لا تحدثني هنا عن أزمة قلبية وكوليسترول وغيرها من محددات عالم المادة، نحن لا نتكلم هنا عن قرنية عين صناعية أو روبوت، نحن نتكلم عن حياة الإنسان والأهداف التي عاش من أجلها، والتي كما يبدو أن صاحبها ينتهي ويغادر بعدما ينتهي منها ويقول كل ما أراد قوله!

لكل إنسان في هذه الحياة مهمة، وبمجرد أن يقوم بها يرحل، وبعدما انتهى عزيزنا توفيق من مهمته قد رحل أيضًا، رحلَ تاركًا وراءه جيل كامل من الذين أحبوه وتأثروا به، وحتى من الذين بدأوا يكتبون بطريقته “التوفيقيّة” أيضًا.

رحل تاركًا وراءه عالمًا من ما وراء الطبيعة، عالمه الخاص الذي أبدعه، العالم الذي كان فيه إنسانًا مثقفاً وساخرًا، حنونًا وضحوكًا، ملولًا أعزبًا ليس لديه في الحياة سوى بضعة أمور سخّر حياته من أجلها.

رحل احمد خالد توفيق من عالم المادة، إلا أنه موجود في عوالم أخرى أنشأها، عوالم أخرى كقلوب الآخرين الذين أحبوه قبل أن يروه، الذين أحبوه فقط من كلماته التي كتبها.

لربما قرص الجليسرين خانه في الواقع، إلا أنه محق وقد تكون خيانته مبررة. للموت جمالية يا صديق، بالرغم من أنه مؤلم إلا أنه النهاية العُظمى لكل من عاش حياة موجّهة نحو هدف نبيل ما.

هل تتذكر عندما هوى الفأس على رأس ويليام والاس في فيلم القلب الشجاع! هل تتخيل نهاية أفضل من ذلك يا رجل! تخيّل أن ينتصر ويليام ويتزوج وينجب أطفال ويصاب بعدها بألزهايمر والتبول اللإرادي ويموت بالتهاب المثانة!

ما هذا بحق السماء!

هل كان كافكا سيكون كافكا لو مات عاديًا! لو مات عجوزًا على كرسيه! هل كان هيمنغواي ذلك الكاتب العظيم لو توفي بشكل طبيعي!

الموت الجليل هو النهاية العظمى لجميع القصص الملحمية المؤثرة، صحيح أنه مؤلم إلا أنه أمر شبه واجب، فبمجرّد حدوثه يتألّق المعنى ويغدو صاحبهُ مُسجلًا في قائمة الأبد.

55 عامًا كانت كافية لكل شيء، كافية لآلاف الصفحات، لآلاف الحكم، لآلاف الضحكات الساخرة، والكثير الكثير من تلك الأشياء التي شعرنا بها فقط مع أحمد خالد توفيق، والتي قد تطول وتطول.

وداعًا أيها الغريب، وداعًا أحمد خالد توفيق، صدقوني هو لم يمت إلا في عالم الطبيعة فقط أما على الصفحات التي خطّها وفي عوالم أخرى من نمط ما وراء الطبيعة وقلوب الآخرين فهو ما زال حيًا يرزق.

لا داعي للحزن، لا داعي للبكاء، لا تضع اللوم على مجموعة مركبات كيميائية شكّلت قرصًا مضادًا للأزمات القلبية، فرحيل أحمد خالد توفيق كان جزئيًا فقط فهو لا يزال موجودًا في أماكن كثيرة.

هذه هي جمالية الكتّاب، وهي أنه بموتهم لا يموتون! هناك كلمات كتبوها وسطور خطوها تدل عليهم وتشير إلى أرواحهم يستحيل عليها أن تفنى. هناك سلاسل كاملة لطالما أمتعونا بها من خلال مشاعرهم التي نبضت وستنبض بها حتى آخر الساعات والأيام.

أو على طريقة فقيدنا العزيز:

ليس فقط حتى آخر الساعات والأيام، بل أيضًا وحتى تحترق النجوم وحتى!