علي حمدون
علي حمدون

د

إيمرنس المجرية وحسن البنغالي

هل يحق لمن اِئتمناه على سرّنا أن يمرره لغيره، وأن يَسحلهُ غيره بالشارع لِيُصغي الجميع إلى  صراخه، ماذا لو كان هذا السرّ ليس من المفترض له أن يكون سرًّا  في أحد الأوقات، بل ويجب الإفصاح عنه قبل فوات الأوان !

ماذا لو كان هذا السرّ المخبوء خلف باب الصدر يخنق كاتمه ويقبض عنقه بِأيَادٍ وهمية،  تجبره على تلذذ العذاب بمازوخية ! 

هذه التساؤلات المبطنة راودتني بعدما قرأت رواية الباب للمجرية ماجدا سابو والتي تتحدث عن علاقة كاتبة مجرية بخادمتها إيمرنس، العمل يسهب في إيضاح الفروقات التعليمية والحالة الاجتماعية وغيره، 

ولكن أكثر ما سيشدك فيه هِيَ حياة الخادمة المستفحلة بجبروتها الإنساني، الخادمة التي تعبث بالمثل الدرّاج :

من “خادم القوم سيدهم” لتحوّله إلى “سيدة القوم خادمتهم” 

صحيح بِأن شخصية الخادمة إيمرنس استثنائية وملفتة بنعومة غير ضارة، ودكتاتورية على المنزل الذي تقوم على رعايته، وأفضالها لو كانت سُحباً لأغرقت الحيّ الّذي تقطنه عن بكرة أبيه ولشكرها الحيوان قبل الإنسان على عظيم ما تقدمه.

وصحيح بأنها ليست مجرد خادمة بمهام منزلية تنظيفية بل تنظيمية لحياة سكانه، وأنها شخصية فريدة بوقاحة تساؤلاتها الطفولية وتطاولاتها الغيبية، كزوربا اليوناني تقريبًا في قمعه للمعرفة واحتقاره للفكر، وصحيح بأنها امرأة خبرت السياسة بجهلها حتى ازدرت أحزابها بسطحية وربطت جميع رؤساء العالم  بالأنظمة الطغيانية.

 إلا أنها وبالنهاية غدت كائن ضعيف بشخصيةٌ امتلأت بالخذلان، والخذلان عدو كل قوة، فحتى الإيمان الذي تلقفته بكل سرية وعملت به وسخّرت جميع خيراتها  في خدمته، أدار لها ظهره بالنهاية، فأخذت ترمي عليه خيباتها بكل سفاهة، متمسكة بما تبقى من أنقاض حياتها بكبرياء وبسالة، متخلية بذلك عن كل مساعدة سماوية قد تستجلبها صلاة، وكل قوى غيبية قوّمتْ من عماد الدين ! 

إيمرنس وبالرغم من شدتها كما يبدو في بداية وصفي لها إلا أنها عاصرتْ نهاية حياتها بوجع ومأساوية كحال جميع من آثروا وحدتهم  حفاظاً على أسرارهم، فليس مقدر على الإنسان أن يواجه مآسيه لوحده حتى وإن كانت الألفة مخيبة للآمال، فالتقوقع والانكفاء على الذات دربٌ نرتضيه ببؤسه القاتم، ليقودنا نحو نهاية متعرجة ممجوجة تُفضي إلى جرف يعذبنا بسقوط تنهار على أثره كافة أسرارنا المطبقة بصمتها بهيئة صرخة !  

أعتقد بِأن ميزة الأدب هو إسقاطاته على محيطنا، والشخصيات التي قد نربطها بمثيلاتها بحياتنا الواقعية، فمثلما قال أحدهم : “من رحمة الله تطابق المشاعر بين شخص يكتبك وتكتبه،  فالأدب يشرحنا ويرزقنا بمن يحكي بالنيابة عن فؤادنا  هذا ما يميزه”.

فمن خلال الأدب تبرز نقاط تشابه البشر عاطفياً رغم أنف الاختلافات المخترعة.

فأسرار إيمرنس والتي انبثقت بصورة صدمة عاطفية هزّت محيطها، ذكرتني بأكثر من شخصية بحياتي، فَبالشق الأول أرتبط ولائها بولاء الخادمة مارجريت السريلانكية والتي ساهمت في تربيتي ووقفت معنا في حرب الخليج أثناء تنقلاتنا وآثرت البقاء على العودة إلى وطنها بدون مقابل مادي وكانت خير عونٍ لنا.

وبقوة إيمرنس تذكرت خادمة جدتي ( جينوتي ) والتي كانت تحمل جدتي كالدمية وترعاها كما لو كانت أمها، تذكرتها عندما صرعت بقبضتها الحديدية بائع بالدكان حاول التحرش بها فأنتهى به الحال مستلقياً خلف الكاونتر فاقداً لوعيه !

أما نهايتها المؤسفة فذكرتني بحسن البنغالي المتعدد المهارات والّذي مات  بحادث مأساوي. والّذي كنت أكاسره على سعر غسيل السيارات وتنظيف الفناء ورمي النفايات، بل وأتذمر من حاجيات الغسيل وأدواته حين يضعها في أحد زوايا الكراج من الخارج بحجة تشويهه للمنزل. 

حسن والّذي بحماقتي لم أدرك باستفساره عن قيمة ايجار غرفة السائق المفرغة بمنزلنا بِأنه يبحث عن مأوى حيث أن كبرياؤه منعه من الاعتراف بأن منزله بالغربة التي يعيشها بوجودنا عباره عن سرير داخل زقاق خفي خلف مسجد  مسقوفٌ بالقماش !

 وتلك لم تكن صدمة يتيمة بل وعندما تم تفتيش جهازه المحمول من قبل أحد  الجيران وجد فيديو لزوجته وهي تتشكى من منزلها الواقع  بجانب مستنقعات، حيث الأفاعي تحيط بها وبأبنائه من جميع الجهات وتستقر بباطن أرضه كالدود بالقبر !

ضربت بعد انبثاق تلك الأسرار المرّة كف على كف لاِرتكاني على توقع اختزانه لكنزٌ أستجمعه بخبث وطمع، لاِرتكاني على حقيقة سرقاته  المتشكلة بأسعار خدماته المرتفعة بخيالي الأحمق ! 

إيمرنس المُتخيلة والعامل حسن الحقيقي ومن يشبههم، نماذج لمن تلفظهم الحياة دون أن يتحينون  حظوظها المعدومة، يسقطون فيقفون مجدداً بقدرة لدنية دون أن يلاحظهم أحد من التافهين منّا، دون أن ينتظرون نظرات أسِغّةٍ حزينة من عابرين، دون أن يرومون إلى  يدٍ حانية تطبطب على أكتافهم المثقلة ليسمهرون. هم نماذج لمن تجرحهم شويكة الكلمة القاسية دون أن يصرخون خوفاً من لفت الانتباه، وخوفاً من أن يسمعهم  أحد بسبب قوة تعففهم وكبريائهم !

صلواتي ودعواتي دائما وأبداً، موجهة لأمثالهم.