قصي حسون
قصي حسون

د

الانتحار أم الثورة؟


هل ستؤدي عدمية “الخلود” الى إنتهاء الفضيلة؟

وهل الإحساس بشعور “العبث” يدفع إلى الثورة أم الى الانتحار؟

نظرة على فلسفة العَود الأبدي من داخل الصندوق

لقد استهلَّ ميلان كونديرا روايته “كائن لا تُحتمل خفته” بحديثه المُبسَّط عن “العَود الأبدي” .. فيقول: “العَود الأبدي، فكرة يكتنفها الغموض وبها أربك نيتشه الكثيرين من الفلاسفة: أن نتصور أن كل شيء سيتكرر ذات يوم كما عشناه في السابق، وأن هذا التكرار بالذات سيتكرر بلا نهاية!”.

ترتبط فكرة العود الأبدي أو التكرار الأبدي مباشرةً بفلسفة “الحتمية المسبقة” التي ترى أن الناس مُقدر لهم مواصلة تكرار نفس الأحداث مراراً وتكراراً.

إن التبحر والتعمق في تفاصيل الأشياء، وإعطائها أبعاد إضافية لإبعادها الأساسية أو المقصودة، قد يخلق ذلك للفكرة دماغاً تفكر وتتطور من خلاله ولساناً تتكلم وتعبر عن طريقه، وآذاناً تستمع وتصغي فيهن. هنالك نجد أن التفاصيل تقودنا بكل انسيابية وإذعان لأن نبحر وسفن تفكيرنا إلى أبعد الأماكن الطوباوية الخيالية التي ممكن لعقولنا وعاطفتنا مجتمعين إبداعها، تلك التفاصيل نفسها التي ممكن أن تصنع منا ملائكة أو شياطين، عقلاء أو مجانين ، آلهة حتى أو بشر، نسطف بتراصّ قوي في العجلة الفولاذية الدوارة منتظرين مقعداً، مقتنعين نهايةً، فرحين نشوةً.. بما أوتينا به من نِعم سوداء.

ليعود كونديرا للواجهة فيطلق تسائلا جديداً يقول فيه: “لو قدر لكل ثانية من حياتنا أن تتكرر مرات لا حصر لها لكنا معلقين على الأبدية مثلما علق اليسوع المسيح على صليبه، هذه الفكرة فظيعة ففي عالم العود الأبدي كل حركة تحمل ثقل مسؤولية لا تطاق. وهذا ما جعل نيتشه يقول : إن فكرة العود الأبدي هي الحمل الأكثر ثقلاً. ولكن هل الثقل هو حقاً فظيع؟ وجميلة هي الخفة؟”

فماذا لو كان هذا التكرار وهذا العود الأبدي أساس الحياة الآخرة؟ هل سيكون عندها حملاً أكثر ثقلاً وأكثر إغراء حقاً!؟

ضبابية الخلود المتكرر

قد يحلو للبشرية قاطبةً – وهي في قمة نشوتها وتبحرها في التعمق والإبداع – أن تفكر وبشكل متقطع وروتيني في فكرة رنانة متشعبة جدلية وأزلية مثل فكرة العود الأبدي، ولكن ماذا لو تفكرت فجأة ولبضع ثوانٍ فقط في فكرة العود الأبدي في الآخرة أو “تكرار الخلود” – إن صح التعبير – في المكافأت الخيالية النهائية؟!… هنالك نجد أن الإيمان نفسه يدعو لحياةٍ ورديةٍ مليئة بالإيمان المحدد مسبقاً، والتي تنتهي بدورها بالتقاطنا لتلك المكافآت الوردية في الخلود المتكرر. فتكون الفكرة بأكملها مجرد إفتراضاً متعلقاً بالإيمان نفسه، وكما كان يُفترض الاقتناع بكل الغيبيات والخوراق الذي يحمله أي إيمان، كان بالتالي يُفترض الإيمان المطلق بكل النظريات والأفكار التابعة لهذا الإيمان الخالد نفسه وكأنها فكرة لا تتجزأ منه.

إن فكرة أزليةً مثل فكرة ممارسة الشيء ذاته كل يوم(حسب تعريف الوقت في عالمنا) دون ملل أو كلل تبدو غريبة وغير منطقية لدى البعض، ومغريةً وفوقيةً لدى البعض الآخر الذي يقتنع بدوره أن هكذا أفكار تفوق وتتعدى هوامش فهمنا أو خيالنا المحدود، وتبدو لدى البعض الأول فكرة مملة ومخيفة وغير منطقية على حدٍّ سواء فحتى فكرة ممارسة الجنس لديهم (إذا اعتبرناها أجمل الأفكار والممارسات تكراراً) تبدو مملة ومخيفة إذا تكررت لعدد غير متناهي من الأيام أو المرات. إن اللانهائية بحد ذاتها وتكرار الخلود بمفهومه الضبابي فكرة مجرمة بحق العقل والمنطق لديهم.

فمن المحتمل أن تقتنع أو لا تقتنع البشرية “أفراداً” بفكرة التكرار تلك، ولكن إذا أردنا أن نضرب عرض الحائط جدلاً هنا يمكننا أن نقول بكل أريحيةٍ، هي أن التكرار من أكثر الأشياء استخداماً على وجه هذه الزرقاء المتناقضة.. وبالرغم من تلك الحقيقة “المفترضة بالطبع” كانت البشرية في تهافت دائم وفي محاولات متكررة أيضاً بعدم تكرار الأشياء أو الأفكار أو حتى العواطف على حدٍ سواء، وكأننا لم نكن مقتنعين بحقيقة التكرار تلك أو أننا لم ولن نكن كذلك يوماً.

يقول قائل: إن فكرة التكرار والملل في الحياة النهائية “غير منطقية” ولكنها مُقنعة لحد مخيف.

ويقول آخر: إن فكرة الخلود وتكراره “فوقية جداً” ولكنها حقيقية لحد مُغري.


صورة تعبر عن الضبابية والطريق إلى الأبدية

لا وجود للفضيلة، ما دام لا وجود للخلود!

يناقش فيودور دوستويفسكي في روايته “الأخوة كارمازوف”، فكرة عرضية و مُلِحَّة في حوار جانبي بين شخصياتها، فيقول راكيتين متحدثاً عن إيفان: “”إن مقالته مضحكة باطلة!، أما النظريات التي عرضها منذ قليل فهي غبية بليدة! “لا فضائل بغير ايمان بخلود الروح. كل شيء مباح اذا لم نؤمن بخلود الروح”. هذه نظرية تغري أناساً أوغاداً. لا.. ليسوا أناساً أوغاداً، بل مثقفين أدعياء يحملون في أنفسهم “أفكاراً عميقةً عويصة”. إن جوهر تفكيره هو مايلي: “من جهة أولى يستحيل عدم الإنكار، ومن جهة أخرى يستحيل عدم الاعتراف!”. إن الإنسانية ستجد في نفسها القدرة على أن تحيا الفضيلة،سواء أآمنت بخلود الروح أم لم تؤمن!””.

انطلاقاً من فلسفة العود الأبدي بدايةً، وقفزاً في فكرة تكرار الخلود ثانياً، فإنه لمن المناسب هنا أن نتطرق للحالة الخطيرة التي يُنفى فيها “جدلاً” فكرة الأبدية وتكرارها(على أن الخلود لا يحتاج الى تكرار).. فقد تتناقض بالضرورة فكرة عدم وجود الخلود مع فكرة وجود الفضيلة، فهل من الممكن أن الإنسان الخارق إن علمَ – على سبيل المثال وافتتاح الفكرة – أن أعماله الصالحة ومبادئه النبيلة لن تُكرَّم على منصةٍ كبيرة وأمام حشودٍ غفيرة في نهاية المطاف!… فهل من الممكن عندها أو بعدها أن يتوقف عن إدراك تلك الفضيلة المذكورة أعلاه!؟

ففي تعريفنا للفضيلة نجد أن الفيلسوف اليوناني “أرسطو” يقول “بما معناه” إنها “أمر خُلُقي مكتسب، أي أنها ليست فطرية أو طبيعية بل يكون اكتسابها بالتَّعود، وحينما يتعود عليها الإنسان تصبح يسيرة عليه، ومن يجد في ممارستها صعوبة فهو غير مُستعِد لها”.

ولكن الشيء الذي لا يدع مجالاً للشك هنا أن النقيضان “الفضيلة والرذيلة” من أكثر المتناقضات جدلاً والتباساً. فقد تبدو فكرة الفضيلة وجذورها فكرةٌ جدليةٌ ومتشعبةً أيضاً في هذا السياق، وقد تبدو فكرة الرذيلة وجذورها والخلود وتكراره كذلك بلا شك.

فلنتخيل جميعاً “في تكملة المثال والجدل أعلاه” أنه وفي يومٍ من الأيام الكالحة السواد انتشرت نظريات مقنعة حول فكرة عدم وجود الخلود.. فما الذي يمكن أن يحل بكوكبنا حقاً!؟.. هل ستنتهي الفضيلة وتحل الرذيلة!؟، هل ستبدأ الجريمة وينتهي العقاب!؟.

حقيقةً لا يمكننا أن ننكر أن هنالك الكثير من المجرمين على شفى خطوة وأقل من ارتكابهم حماقتهم وأن الخطوة تلك هي بالضرورة عذاب الآخرة أو على الأقل عذاب الضمير المؤمن..

يقول قائل أخير قاطعاً وزائداً الجدل: في ذلك اليوم الحالك، سوف تصبح الرذيلة بلا شك فن من “الفنون السبعة”، بل ومن الممكن أن تفوز بالمركز “الثامن” بكل جدارة. أي إن لم يكن هنالك عقاباً خالداً ومتكرراً للرذيلةِ على الأقل!، فإنه عندئذٍ فقط سوف نرى سيولاً من المجرمين يستعدون بكل بطشهم وجبروتهم لتخطي خطوتهم الأخيرة تلك بكل ثقةٍ واقتناع.. ولكن في المقابل وبغض النظر عن جذور الفضيلة(اكتساباً كانت أم فِطرة)، فليس من الضروري أن تنتشر الرذيلة والأعمال الشنيعة(بتعريفنا الحالي لها) بتلك الطريقة الخيالية، فإن غاب الإيمان بالخلود ليس من الضرورة أن تغيب نظرتنا كبشرية للأعمال السيئة. ولكن من المُحتمل أخيراً أن يتبقى لدى المجرم قليلاً من العذاب الدنيوي وعذاب الضمير النابع من نظرة العامة إليه فقط.


صورة تعبر عن الحيرة في الاختيار

الثورة أم الانتحار؟

يستكشف الكاتب والفيلسوف ألبير كامو مفهوم التكرار الأبدي في مقالته “عن أسطورة سيزيف(رمز العذاب الأبدي)”، إذ تاتي الطبيعة المتكررة للوجود لتمثل عبثية الحياة، ويقدّم كامو فلسفته حول “العبث” ويتساءل هل الإحساس بشعور “العبث” ذلك يدفع إلى الانتحار؟ فيجيب: “لا، بل يدفع إلى الثورة“.

إن كان التفكر والتعمق – بعبثية الحياة من عدمها أو بأي شيءٍ آخر– سوف يخلق حالةٌ من الارتباك في الاختيار ما بين الانتحار أو الثورة.. فلا بأس. فقد تحتاج شريحةٌ من المتقافزين على هذا الكوكب في بعض الأحيان شكوكاً و أسْئِلَة أكثر من طمأنينةً وأجوبة!.

قصي حسون