غادة العمودي
غادة العمودي

د

المحظوظون روحياً

عرّف الروائي الإنجليزي س.إ.مونتاغيو “المحظوظين روحيا” بالوصف : “ يبدو المحظوظون وكأنهم ما جاءوا إلى العالم إلا لتوِّهم.. فما يزال فيهم شيء من آدم في يومه الأول: إنهم يستطيعون بعيون براقة تنظيم الحديقة، ويرنون عجبا إلى القمر والنجوم كأنها من غرائب الكائنات”.

بمعنى آخر؛ فإن المحظوظين روحيا هم الذين احتفظوا بالسذاجة – أحب تسميتها البراءة- في نظرتهم إلى الحياة، والعالم ككل.

إن خير من يمثّل منزع البراءة بعد اخضرار العمر اثنان: الكاتب، والفنّان. فهما عبر تاريخهما ما فتئنا يقدمان عرضا لذلك الحلم الطفلي؛ بأننا نتمكن من صنع شيء ما، لحياة ما، في أرض ما، ولكن؛ في لحظتنا هذه!

أعجب لماذا كان أينشتاين مهووسا بعامل الزمن، حيث فككه إلى الضوء والسرعة والمكان، هل أننا – جميعا- نعيش أزمة ثقة مع لحظة الزمن فينا، سواء أكنا أينشتاينًا يخاف أن يفوته خلود العلم، أم فتاة تخاف أن يمضي عنها الزواج، أوعجوزا يخاف أن يبهته الموت المفاجئ!

فحوى الكلام؛ أن الكتابة تقوى -أدبيا- بقدر ما تتغلب على العويص من صعوبات الإنسان في الحياة. ولعل الأدب ليس “روشتة” حلول المشكلات، ولكنه – ولا بد- زاوية نظر لدقائقها من جهة، ثم للإفصاح عن موقف الإنسان منها من عدة جهات: أفكاره، وعواطفه، ورؤاه.

في تطور ما من خطوات تطوير الصبغة الإبداعية داخلنا، يلزمنا أن نتوجّه وجهة تغذية “الروحية” لكامل مركبنا الهشّ، وقد لا نعي في بكارة تحقيق الإبداع؛ أن الروحية هي الدافع الذي أضرم احتكاك الفنون والآداب عبر العصور المسطرة والمنسية. لقد قصد الإنسان “ربَّه” المتوجّه إليه، وارتضى للإبداع أن يبلغ عنه ما قصر به حاله، أو تعثر فيه مقاله، وعلى الرغم من أن الإبداع جهد الإنسان، غير أنه يتجاوز الضيق من فروقات بيننا، ليرسم “المجرّد” من تخليقنا، وحين نتواصل مع هذا المجرّد نكون قد لمسنا توحّد خصائصنا، ووحدانية خالقنا.

لا محيص للمبدع من إنشاء فلسفة روحية خاصة به، فأسئلته الثقيلة لا تحملها رتابة التدافع الحياتي، لأنه – أي المبدع- كثير كثير التوقف، ويمهر في إمعان النظر، وتقديم التحليل تلو التحليل لما يعتقد فيه عدم الجدارة بأن يكمل مع الإنسانية في مشوار ترقيها. وكم من نظريات سياسية واجتماعية دحضها الفن والكتابة، حين تناولوا أبجدياتها من زوايا غفلة عن محدِثيها، فمارس الإبداع مقاومته بشريعة الإنسانية، تلك المقاومة التي لا نحترم فورتها حين نستمرئ “التقليد” وَ ” التكرار” -طلبا للسرعة- فيما ننتج من فنون وكتابات.

“كسر الزمن”؛ هو ما أراد أينشتاين أن يفترضه من نظريته، ولكن “أن نأخذ الزمن” هو ما يثبته الإبداع، وهو في التأمل أبعد، ولكنه الموافق لروح الوجود.