عبدالرحمن عرفة
عبدالرحمن عرفة

د

نتفليكس وجورج سورس وفلسفة المجتمع المفتوح

عندما تُذكر هذه الأسماء، لا بد أن تعوم فكرة المؤامرة على السطح فوراً، لنسمع عبارات مِن نمط: هدم لبنة الأسرةتفكيك روابط المجتمعنشر الفواحشالنظام العالمي الجديد… الخ مِن مصطلحات الرعب التي لا نملك أمام سطوة ماكينتها الإعلامية / الاقتصادية شيئاً.

إلا أن المراقب للموضوع بشكل أكبر -على الأقل تاريخياً- يرى إطاراً لا بد من الحديث عنه؛ يتعلّق بمرحلة شديدة الصعوبة كانت قد جرت في القرن المنصرم، لُخّصت بحربين عالمتين والكثير من المآسي الفرعية الأخرى التي لا تقل حدة عنها. ليخرج بعد كل هذا العالم بفلسفة جديدة تماماً، فلسفة بُنيت على أنقاض كل الأيدولوجيات المتطرفة التي حاربت في العالمية الثانية. فلسفة سُميت باسم فلسفة المجتمع المفتوح.

والتي كان ذراعها الفكرية الفيلسوف الفذ «كارل بوبر» أما ذراعها الاقتصادية الإعلامية الذي لا يزال حياً إلى الآن، هو رجل الأعمال الملياردير «جورج سورس».

بدأ الأمر مع اشتداد الوطيس للحرب العالمية الثانية عندما تصارعت أشد العقائد تزمتاً. فها هي النازية بقيادة أدولف هتلر. وها هي الشيوعية بقيادة ستالين الحديدي. وها هي الفاشية تحت إمرة موسوليني. ولا ننسى الليبرالية الغربية تحت قيادة الحلفاء.

بدأ الجميع يطحن الجميع محاولاً الفتك بهم… ثم لبرهة صغيرة مِن الزمن وقفوا مشدوهين أمام حقيقة أثبتت نفسها دامغةً!

وهي أنه مهما كانت عقيدتك صحيحة ومحقة وتتبع مبادئ الطبيعة أو قوانين السماء. لا يعني هذا «الانتصار الميداني» لها! على العكس، ذلك يعني الفناء الحتمي… ولعل في قوانين الشُحن الكهربائية خير دليل على ذلك. فعندما تصطدم شحنة ضخمة مسلحة من الهتلرية النازية الموجبة، مع شحنة ضخمة سلبية من الشيوعية الستالينية. لا يكون الناتج سوى الفناء معاً تحت مظلة مبادئ بسيطة في الفيزياء.

بالتالي أن تكون محقاً -نظرياً وأخلاقياً- لا يعني أبداً أن تنجح على أرض الواقع!

مهّدت كل هذه المآسي الطريق لظهور فلسفة المجتمع المفتوح مُتبلورةً في كتاب بوبر الذي أسماه «المجتمع المفتوح وأعداؤه» بُعيد الحرب العالمية الثانية. وإن أردنا تلخيص الفكرة العامة لذلك الكتاب، فهي شن هجوم على المبدأ التاريخاني الحتمي للفلاسفة القدماء، خصوصاً (أفلاطون – هيغل – ماركس). كونهم نزعوا من الإنسان إنسانيته ووضعوا مصيره في «قوانين تاريخانية» وهمية تجعله يقف أمامها عاجزاً.

بالنسبة لبوبر، هؤلاء الفلاسفة جعلوا من الإنسان قزماً أمام التاريخ عندما فرضوا عليه قوانيناً يجب أن يطبقها كي يحقق الخلاص الديني أو المدينة الفاضلة والمجتمع الأخلاقي، لذلك وصفهم بتأييد الشمولية. وما كان انقلابه ودعوته للمجتمع المفتوح سوى بمثابة تحرير للإنسان مِن هذه القوانين التي تحاول سرقة مستقبله تحت مظلة قوانين قديمة، ليضعها مُجددًا ضمن يديه جاعلاً الإنسان هو سيد قراره.

هذه هي باختصار الفكرة التي انبثقت بعد مرحلة الحرب العالمية الثانية وأيدها الوضع الراهن آنذاك بسبب تصارع سابق لأيدولوجيات عنيفة لم ينجح أي منها في اختراق الآخر بشكل كامل. فتردد صداها منذ ذلك الحين وإلى الآن.

تلقف هذه الفكرة وتبناها بشكل كامل، وألّف فيها ما يربو على 10 كتب، الملياردير الأمريكي ذو الأصول الهنغارية صاحب الاسم المرتبط دائماً مع نظريات المؤامرة. ألا وهو جورج سورس.

أعتقد أن اسم سورس قد أسيء فهمه بشكل كبير. خصوصاً عند مَن يقولون بالمؤامرة و يختزلون المفاهيم الكبرى بنقد صغير جداً يشبه مَن يحاول أن يرمي قلعة ضخمة بحصاة صغيرة! فلسفة المجتمع المفتوح هي فلسفة ضخمة غير متعلقة بسورس وغيره، هو فقط الداعم لها في هذا العصر كما سيكون هناك آخرين فيما سيأتي من عصور لاحقة.

من خلال آلته الإعلامية والمنظمات التي يرعاها، وعبر العديد من وسائل الإعلام العالمية ومنصات التواصل التي لن تكون نتفليكس أول واحدة فيها ولا الأخيرة. تُنشر أفكار المجتمع المفتوح ويتم وضعها ضمن إطار الإنسانية الجديدة وكيف أن الجنس البشري أصبح واحداً مُرتبطاً ببعضه البعض لا تفرقه ألوان ولا أحزان.

لا يمكن لأي إنسان مُنصف أن ينكر الأفضال التي أتت بها فلسفة المجتمعات المفتوحة هذه، فأوّل إيجابية وأهمها ولعلها السبب الدافع في نشأتها من أصلها كانت فلسفة اللاعنف التي أنتجتها. فبما أن هذه الفلسفة هي وليدة مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، فمن الطبيعي أن يكون همها الأول هو تجنّب حدوث ذلك الصدام العنيف مجددًا، لذلك والحق يُقال تسعى الفلسفة المفتوحة لجعل المجتمعات قريبة من بعضها لذلك لا يمكن أن تكون عنيفة أو تصطدم بقسوة. تحت شعار ما يمكنك التعرف عليه عن قرب لا يمكنك الشجار معه.

«الحرب هي قتل مجموعة من الأغراب الذين لا تكن لهم أي عداء. ولو قابلتهم في ظروف أخرى لقدمت لهم العون أو طلبته منهم» – مارك توين.

فمن الحق قولهُ أن المجتمع المفتوح هو مجتمع مُسالم يحرر الإنسان مِن عبء القوانين التاريخانية الواجب تطبيقها لكي يكسب الخلاص على اختلاف تنوّعاته. ولعل هذا التقارب يظهر في هوليود ونتفليكس وغيرهم من وسائل الإعلام والإخبار التي تبنّت دائماً أن يكون في كوادرها وطواقمها ممثلين ومذيعين وكتاب مِن شتى الأعراق واللهجات والميول الجنسية. كل هذا من أجل تعزيز فكرة تحرير الإنسان من قوانينه التاريخانية المسبقة وبالتالي تقريبه من الآخر المجهول بالنسبة له، وكتحصيل حاصل، عدم كرهه له كونه بات يعرفه، أي عدم القتال وإعادة مأساة الحرب.

ليكون لدينا حينها مجتمع مفتوح مسالم، الجميع يرى فيه الجميع «الآخر» ويقترب منهم.

هذه هي الفكرة الإيجابية المؤيدة لهذه الفلسفة، إلا أنه كما للقمر جانب مظلم، لهذا المجتمع جانب آخر داكن لا بد من التطرق إليه.

الجانب الآخر يكمن في أن تحرير الإنسان من قوانين التاريخانية التي تسلب مصيره باسم الدين والثقافة والمبدأ القديم وحكمة الأجداد، لن يجعله حراً بقدر ما سيجعله فريسة القوانين «غير التاريخانية» التي ستنقض عليه لافتراسه، ولعل القانون الأبرز السائد حالياً هو الليبرالي، ليس بجناحه الحقوقي الداعي لمساواة روح الإنسان إنما الجناح الاقتصادي الداعي لاختراق جيب الإنسان.

ما غاب عن ذهن المنظرين لفلسفة المجتمع المفتوح أن تحرير الإنسان من مبادئه التاريخانية سيجعله عارياً أمام أي قانون جديد يحاول فرض نفسه، ولعل قانون السوق الحرة والشركات العابرة للقارات هو السائد حالياً.

إذ يغيب عن بال بعض الليبراليين الحاليين أن الفلسفة الليبرالية وأنموذج الإنسان العالمي الواحد، لم يأتي فقط لجعل الكوكب منزل صغيرة يعيش فيه الجميع بشكل متساوٍ وعادل. إنما جاءت لاختراق الإنسان اقتصادياً، وبشكل أدق من خلال الشركات متعددة الجنسيات.

فمع بلوغ الإنتاج درجة الفائض في الدول الصناعية الأولى على مستوى العالم، بزغت الحاجة لفلسفة تقوم على فكرة أن الإنسان كائن واحد لا يوجد بينه وبين الآخر حدود. والتي كانت هي الليبرالية عدوة المجتمع المغلق.

إلى الآن هذا الكلام جميل، إلا أن ما يغيب عن الذهن أن الفكرة لم تكن يوماً «الإنسان العالمي» بقدر ما كانت «المستهلك العالمي»!

عندما أدركت الدول الصناعية الكبرى أنها بحاجة لترويج منتجاتها بشكل عالمي وليس محلي فقط كان لا بد أن تخاطب المجتمعات بكل أطيافها، أن تخاطب العرق الأبيض والأصفر والأسود والجميع. مختلف التوجهات الجنسية والعقائدية. فغير مهم ما هو الإنسان بقدر أهمية أن يدفع ذلك الإنسان الأموال لقاء ما يحوزه من خدمات.

وكلما نسيت هذه الفكرة تذكر أن شركة نايكي الرياضية العالمية تُنتج الحجابات! ولا أعتقد أن هذه الشركات تملك حساً مرهفاً نحو الإنسان وفلسفة اللاعنف بقدر ما هدفها الربح ولا شيء غيره!

فحصر الليبرالية بكونها مُحرر الإنسان والمخلص هي رؤيا طفوليّة أفلاطونية، الليبرالية تحرر رأس المال قبل أن تحرر الإنسان. ففكرتها دائماً المستهلك العالمي قبل الإنسان العالمي، ولو آمنت بفكرة الإنسان العالمي الذي لا تفرقه الألوان والأجناس، فهذه فلسفة أفلاطونية حالمة مثالية، لا أعتقد أنها ستصمد مطوّلاً.

بهذا نكون كوّنا فكرة عما يحدث حالياً في العالم، خصوصاً بعد الصدمة التي تلقاها في الحرب العالمية الثانية التي حرقت الأخضر واليابس.

هناك فلسفتان تتصارعان، أولهما هي المجتمع المفتوح الذي يسعى لتقريب الجميع على اختلاف أنواعهم وألوانهم وميولهم وعقائدهم كيلا يُقاتلوا، حاملةً على ظهرها عبء تحرير الإنسان من قوانينه التاريخانية التي سلبت مستقبلهُ وجعلته رهناً للماضي الثقافي الخاص به.

ثانيهما هي فلسفة المجتمع الواحد أو المنغلق الذي يسعى لتحقيق قوانينه الخاصة والعيش وفق قيم عُليا تستند في غالبها على مبدأ نظرية الصدام الحضاري وأن لكل ثقافة / حضارة عناصر خاصة بها لا يمكن حلّها أو تذويبها للانصهار في بوتقة حضارة عالمية مخترقة باسم شعار الإنسانية العالمية وحرية الإنسان، بينما الحقيقة هي حرية رأس المال وحركة الاقتصاد وسهولة عمل الشركات متعددة الجنسيات.

أي الفلسفتين أحق؟ مَن منهما واجب الاتباع؟ هذا يعتمد على مبدأ كل فرد والقيمة التي يراها في حياته. سواءً مِن خلال عيشه كإنسان وحيد، أو كفرد ضمن مجتمع وثقافة لا بد من وجود قوانين خاضعة لها.