شهد أحمد
شهد أحمد

د

عزاءات الفقد

مع انتشار أخبار الوفيات هذه الأيام فكرت أن أكتب بعض العزاءات التي تعلمتها في الحياة لتخفيف حقيقته المؤلمة. تختلف ردّات فعلنا مع خبر الوفاة ويختلف تعاملنا مع ذلك الخبر. كما قال عمار ناصر في أحد تغريداته: ” تسيل الأفكار، و يظل الموت صخرة في نهر“.

تأبى النفس أن تُصدق حقيقتها و تتعامل معها.. لا زلت أتذكر خبر وفاة الخالة سميرة عندما كنت في الثامنة من عمري. تلك المرة كانت هي المرة الأولى التي تعرفت فيها على حقيقة الوفاة. لا زلت أتذكر ردة فعل أمي عندما سمعت الخبر ونحن في الطريق للمنزل، عيناها الحمراوان من أثر الدموع خلف النقاب وصوت صدمتها المهيب مع تكرار الاسترجاع لله والتوكل عليه مازال عالقًا في ذهني.

كانت الخالة سميرة صديقة العائلة المُحبة، ذات القلب الطيب، والسمعة الحسنة، كانت تلك الربطة والعقدة القوية في عقد اللؤلؤ التي تربط لئلالئه فتمنعه من الفرار؛ فعندما ذهبت كان لذهابها صدىً قوي مثل صداها في النفوس، من المفارقة أن ذكرى الخالة سميرة موجودٌ معنا رغم مرور ما يقارب عشر سنوات على وفاتها فمنذ وفاتها وأمي لا تزال تذكرها في أحاديثها العفوية، فتلك وصفة الخالة سميرة اللذيذة الله يرحمها، و تلك الصفة الطيبة صفة الخالة سميرة، وذلك الفستان الجميل الأزرق يشبه ذوق الخالة سميرة..

حتى ارتبطت الخالة سميرة في ذهني بالأشياء الجيدة والذوق الجميل. والآن عندما أرى مختلف التجارب عن التعامل مع ذكرى الوفاة أو التعامل مع الفقد يحزنني أن أجد أشخاصًا يربطون حزنهم العميق بالفقد بالشخص المتوفي نفسه فلا نعلم بعد وفاته إلا حزن حبيبه عليه.

لعل هذه الطريقة التي اتخذتها أمي في المواساة، كانت كفيلة بإن تخفف حقيقة الموت المؤلمة على نفسها. أن يبقى من تحبه حيًا في قلبك بالصورة الذي يُحبها هو، بصورته الحقيقية التي تعرفها قبل مُخلفات الصدمة، والحزن، ناهيك أن أجمل العطايا التي تُقدم للمحبين بعد وفاتهم الذكرى الطيبة والسمعة الحسنة.

وعندما نذكر الحزن العميق لا نقصد بهذا أن نتجنب الشعور به، لأنك إن لم تعش خلال هذا الشعور سيصعب عليك التخلي عنه. يجب أن تعيش من خلاله لكي يمر. بعد وفاة الوالد رحمة الله عليه كانت تهاجمني أسئلة ودخلت بدوامات كثيرة عنوانها: “كيف سأعيش مع هذه الحقيقة المؤلمة؟”.

يبدو أن الحزن سيكون صديقي الأوحد، ودوامة الذكريات دومًا ما تضعني في دائرة ضيقة لا مخرج منها، ولكنها ألطاف الله ورحمته التي تُخرجك من أضيق الزوايا إلى أفسح المساحات وأكثرها نورًا واشعاعًا.. ومن أكثر الحقائق ألمًا و حزنًا إلى أكثر الحقائق تعزيةً وسلوى.

“أن تحيا هو أندر الأشياء بالوجود، فمعظم الناس موجودون فحسب” أوسكار وايلد

أول الحقائق هي أنني أدركت أن الحياة مشوار ورحلة، ليس هنالك خط رمادي أو مرادف يسمى بـ” اللا عيش” فالخيارات واضحة أمامك ووقتك محسوب فحريٌ بك أن تعيش حياة لائقة بتلك النعم المُقدمة لك لكي يكون وصولك للمحطة كريمًا وطيبًا بقدر تلك النعم، فلا وقت لهدر نفسك بالتفاهات، ولا وقت لعلاقاتٍ سامة، ولا وقت يهدر في طريق لا ينفع.

” مرحبًا ببلاء يورث يقظة” التوحيدي

ثانيها؛ أن وتيرة الحياة العالية المُستمرة التي لا يوقفها شيء تجبرك على التكيف والاستمرار معها، تنزع جلدك الرقيق الذي تأذى من صدماته في الحياة، وتتبدل بجلدٍ سميك قادر على إكمال المشوار.. وتكرار دورة الموت والحياة التي تُمر بنا في كل فترة من فترات حياتنا تُذكرنا و ترسل لنا رسالة فحواها أن ” ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم”..

في غمرة الحياة و مُلهياتها و في الوقت ذاته: ” ولتنظر نفسٌ ما قدمت لغد” لا تخسروا أنفسكم بالحزن والتوقف الغير مجدي فتخسروا قدرتكم على العطاء والعيش.

ولعل أعظم الحقائق و أكثرها تعزية أنك أن احتسبت في ابتلائك هذا رضا الله عنك فقد كسبت مسافات واسعة و طويلة في طريقك إليه، كما يقول القائل “من وجد الله فماذا فقد؟ و من فقد الله فماذا وجد؟” فمن وجّد العلاقة القوية التي تربطه بالله خلال رحلته في هذه الحياة فأي مكسب وأي مغنم قد كسبه؟ و من فقده فأي خسران يوازن خسرانه هذا، و أي هدر للحياة و العيش قد خسره؟