ممدوح رزق
ممدوح رزق

د

الصمت الذاتي واسترداد العزلة: مقاربة في الأحلام

تتسم غالبية أحلامي بثلاث خصائص أساسية.. الأولى هي الصمت الذاتي حيث أنني لا أتكلم في الأحلام، وحتى إذا ما تفوّهت في أحيان نادرة بكلمات ما فإنني لا أبدو كأنما أنطقها بنفسي مثل الآخرين وإنما كأن طيفًا غير مرئي يتحدث بها نيابة عني.. طيف يتلصص على ما يجري داخل الحلم أكثر من كونه منتميًا إلى وقائعه.

الخاصية الثانية هي أنني لا أحلم بأماكن غير معلومة؛ إذ أن جميع الفضاءات المكانية التي تمر بها أحلامي سبق وأن خطوت داخلها أو رأيتها بشكل واقعي من قبل، ولكن تلك الأماكن لا تحضر بنفس ما كانت عليه في اليقظة، وإنما تبدو كأنها توجد في زمن ثابت وهو فترة طفولتي في الثمانينيات حتى لو كنت أحمل عمرًا أكبر داخل الحلم..

مع ذلك فهو ليس الزمن كما كان حقًا وإنما في تجسّده الأكثر نقاءً، أي الطفولية متخلصة من جروحها، مهما كانت تفاصيل الحلم أو طبيعة وجودي ضمن مساراته.. الغموض شفافًا كطيف لحدث بالغ الصفاء وليس الحدث نفسه، وكأن المشهد ليس إلا تمهيدًا لمشهد غائب أو وسيطًا غائمًا بين مشهدين لا يدركان أبدًا أو كأنه انقطاع مستقل أو انتزاع بحدود خاصة عن سر هائل صانعًا لعبته المجهولة التي توحي بذلك السر.

الخاصية الثالثة هي أنني لا أحلم أبدًا بأشخاص ليست لي دراية بهم وإنما كل من يعبر أحلامي سبق وأن عرفته واقعيًا على نحو ما، ولكن هؤلاء الأشخاص يبدون دائمًا كأنما يعيشون ثمانينيتهم الخاصة أو نقاءهم الطفولي الخالص بصرف النظر عن سنوات أعمارهم أو ما يقومون به داخل الحلم، وهذا ما يجعل أحلامي أشبه بذكريات حدثت فعليًا في ماض غير مدرك، وبالتالي فإن النشوة الناجمة عنها لا يمكن تعريفها وفقًا للمعايير المألوفة للبهجة.

يمكنني تفسير الصمت الذاتي بأنه استرداد للعزلة الطفولية.. الانطواء الكامن بين الكلمات التي كنت أتفوّه بها في سنواتي المبكرة .. الانكماش الجسدي المختلس بعيدًا عن حصار الأجسام الثمانينية.. الوحدة غير الناطقة وسط الحضور المتكلم المطبق للآخرين.. ذلك الصمت في الأحلام هو استعادة لتلك العزلة التي تمت إزاحتها بالتدريج لتختفي تمامًا في اللاشعور..

الانطواء المدفون في أكثر أغوار الروح عمقًا وعتمة .. الوحدة التي تجردت النفس منها في غفلة بطيئة، خاطفة، لتستقر داخل غياب محصّن لا يسمح سوى بإشارات واهية لوجودها في لحظات نادرة من النوم .. لذا فالصمت الذاتي ليس عنصرًا من عناصر الحلم وإنما هو خالقه.

العزلة الطفولية التي يمثلها ذلك الصمت تكشف عن نفسها داخل الأماكن القديمة التي كانت تتحرك بينها في الماضي.. يعلن الانطواء عن زمنه (الثمانينيات) الذي ظل حيًا في باطن تلك الأماكن بينما كان يتبدد خارجها لحظة بعد أخرى.. تعيد الوحدة إنتاج أماكنها كما لو أنها قد وصلت بها إلى حافة ما بين الماضي الطفولي وبين وعودها وهي على وشك التحرر من مراوغتها وتمنّعها.. كما لو أن الأماكن نفسها تستعيد ماضيها الأقدم من ذكرياتي أي طفولتها الخاصة..

هذا ما قد يفسر لماذا تظهر تلك الأماكن في أحلامي مشابهة لما تبدو عليه المدينة التي عاشت داخلها ذكريات طفولتي في صورها التاريخية، خاصة تلك التي بالأبيض والأسود .. هذا ما قد يفسر أيضًا لماذا تميل تلك الأماكن في أحلامي لأن تتجلى في حالة أقرب إلى الفراغ كأنها تحمي طفوليتها بالتخلص العفوي من كل ما يُحتمل أن يخدشها بإشارة ما إلى الزمن الراهن.

يتعلق الأمر نفسه بشخصيات الأحلام؛ فالصمت الذاتي يعيدهم إلى ما كانوا عليه في ذهنية الثمانينيات، أي كما في حالتهم الأليفة، المروّضة، الأقرب إلى شخصيات القصص المصوّرة في وعي الانطواء وقتئذ .. كأنما يستردون بالتالي طفولتهم المجهولة ولكن بالكيفية التي تجعلهم في حالة أشبه بالتواطؤ مع طبيعتي في الحلم.. تواطؤ مع الوحدة التي أستعيدها للوصول إلى واقع كان يفترض أن الماضي تمهيدًا له بصورة ما.

هذا لا يعني أن الاحلام وردية بالتعبير التقليدي أو كما تترسخ أنماطها المثالية في المتخيل العام، ولكنها أحلام منتشية بالمعنى المشوّق للانتشاء .. الابتهاج الطفولي بالغموض أو التلذذ بالسحر المُسكر للإبهام .. التوحد بالخفة الفاتنة لاكتشاف خفاء حميمي عبر أرواح اعتيادية .. سكينة منسّمة بعطر الشغف الخام حتى لو لم تتضمن الشروط الروتينية للسعادة .. كأن الماضي يعيد كتابة نفسه بمزاجه العجائبي الرائق بوصفه واقعًا أصليًا كان موعودًا بالإفصاح عن نفسه ولكنه ظل مرجئًا في عتمة ما وراء الذاكرة.