فادي عمروش
فادي عمروش

د

مراجعة رواية ساي

تشبه حياةُ الإنسانِ -إلى حدٍ كبيرٍ- فصولَ السنةِ في إشراقِها وبرودِها، في خمودِها واتّقادِها،  لكنّ الفرقَ في عدم انتظامِ توقيتِ كلّ حالةٍ واختلافِ طولِ أمدِها، فلا ضامنَ ألا يستمرَّ شتاءُ الحياةِ عشرةَ أعوامٍ متتاليةٍ، ولا مانعَ أن ينتهيَ ربيعُ الحياةِ في شهورٍ، بل قد يرحلَ دونَ أملٍ بالعودة.

 رواية ساي ثمرةُ إبداعٍ حقيقيٍّ كأول نتاج علني للمبدعتين: هبة أعرابي مديرةِ المحتوى في مؤسسةِ نيوفيرستي، والمرأةِ التي جمعتْ بينَ حبِّها للتقنيةِ ونيلِها لشهادةِ الماستر من جامعةِ غرناطة في الهندسةِ المعلوماتيةِ من جهةٍ، وإتقانِ كتابةِ المحتوى، وصاحبةِ الحسِّ الأدبيِّ الرهيفِ من جهةٍ أخرى، وسحر خواتمي الشغوفةِ بالتقنيةِ القادمة من مجالِ هندسة الكهرباءِ والإلكترونياتِ وذات النظرةِ التصويريّة.

يأتي اسمُ (ساي) من اسمِ بطلةِ القصةِ التي عاشتْ قصةَ حبٍّ لطيفةٍ معَ البروفيسور هيروكي، البورفبسورِ هيروكي المولّهِ بالقراءةِ والتعلمِ، مديرِ مركزٍ للأبحاث الاقتصاديةِ، المولعِ بالكتبِ والمكتبةِ التي تسرقُ منه أوقاته كلَّها، والطبيبةُ النفسيةُ ساي الشقيةُ، الطفوليةُ بكلّ تفاصيلِها، شديدةُ الانفعالِ، رقيقةُ المشاعرِ، التي أسرت قلبَ هيروكي بكلِّ همساتِها وصرخاتِها وسكناتِها وحركاتِها.

تبدأ قصةُ هيروكي مع ساي في مقابلةِ عملٍ لتوظيفِ ساي في قسمِ الاقتصادِ السلوكيِّ ضمن مركز أبحاثه، والاستفادةِ من خبرتِها كطبيبةٍ نفسيّةٍ، فتقتحمُ ساي حياةَ هيروكي من أولِّ موقفٍ مرتديةً ملابسَ غريبةً وسالكةً سلوكاً غريباً لا يليقُ برسميةِ مقابلةِ العملِ، لكن سرعانَ ما يجدُ هيروكي نفسَهُ مفتوناً برشاقةِ كلماتِها، وعظمِ الطاقةِ الكامنةِ في أسلوبِ حديثِها، ليختارَها من بينِ مئةِ متقدّمِ، لتعملَ دون غيرها من المتقدمينَ في المركز.

تستمرُّ أحداثُ القصة في استفزازِ ساي للبروفيسور هيروكي، الذي اعتادَ حياةَ الهدوءِ والرتابةِ والانعزالِ عن معظمِ الأحاديثِ الجانبيةِ والشخصيةِ، فقد اعتمدَ التقليلَ -قدر الإمكان- من معرفةِ الأمورِ والتفاصيلِ الصغيرةِ، والاكتفاءِ بمراقبةِ الصورةِ العامةِ وسيرِ الأعمالِ، لكنّ هذا المنهجَ لم يدمْ مع استفزازاتِ ساي المستمرّةِ من مشاغبةٍ وضحكٍ وتعكيرِ صفوِ قراءتِه في المكتبةِ، إلى الخطاباتِ الحماسيةِ فوقَ الطاولاتِ وهي تجمعُ الموظفين حولها، ممّا يعدّه البروفيسورُ تصّرفاً غيرَ لائقٍ بمكان العمل، إلى عشراتِ الرسائلِ الإلكترونيةِ التي تتطفّلُ عليه حتى لو حاول تجنّبَها، ليضحيَ يومُه يدورُ حول ساي بشكلٍ أو بآخر.

لكن سرعانَ ما يتحولُ هذا الامتعاضُ إلى انجذابٍ وودٍ من جانبِ البروفيسور هيروكي، فيبدأُ بالتقرّبِ منها داخلَ نفسهِ سعيداً بأنوثتها، ولطافتها، وجوِّ المرحِ الذي أضفته على المركزِ، والسعادة التي غمرت المكانَ في وجودها أو غيابها:

تلكَ الابتسامة، هاتان العينان، وتلكَ الحركات العفوية، التعابيرُ الطفولية، حركةُ اليدين، الثواني القليلة التي تسكنُ بها، ثم الانفجارُ العظيمُ حين يحلُّ حماسُ الكونِ عليها، لمعةُ عينيها حينَ تتحدثُ عن شيءٍ تحبُّه، كما لو أنَّها برق ُّ يضربُ في السماء

عاشتْ ساي قبل أن تعرف هيروكي قصةَ حبٍّ مريرة أفضت بطلاقٍ، حيث كانت الحيويةُ والعبثيةُ التي أشعلت جذوةَ الحبِّ في قلب هاك هي التي أطفئته مرةً أخرى، حتى باتت ترفضُ أي مشاعرٍ من أيّ رجلٍ، وهذا ما أحزنَ البروفيسور هيروكي حين اعترفَ لها بمشاعرِهِ، لكنه لم ييأسْ تحتَ أيّ ظرفٍ، وأصرَّ على مشاعرِه في كلّ مرةٍ ترفض هذا، حتى تحولَ البروفيسورُ الرزينُ العاقلُ إلى مراهقٍ عاشقٍ يبذلُ كلَّ ما لديه في سبيلِ إرضاءِ معشوقِه.

تتالى الأحداثُ، وترضخُ ساي لمشاعرها المتردّدة، وتعود للعمل بعدما تركتْهُ، وتقرّرُ الانخراطَ في حياة هيروكي، كما كانت الأمورُ قبلَ أن يصارحَها بحبهِ، دونَ أن تضعَ صفةً رسميةً على علاقتهما، تاركةً الحبلَ على الغاربِ، وتتجاوزُ أحزانها لتفتحَ قلبها المغلقَ للبروفيسور من جديد آملةً أن يعوّضَها عن كلّ ما فات، وتتسارعُ المواقفُ بين الاثنينِ حتى تنتهي بقبولِ ساي الزواجَ من هيروكي.

ساي! أنت ِ، كما أنت ِ وكما ستكونين، وكما ستحبين أن تكوني. كما كنت، وكما ستتغيرين، ِ وكما لن تتغيري، سأبقى بجانبكِ  ، داعماً  لكِ، فخوراً بك ِ . سأراكِ  دائماً وأبداً أجملَ امرأةٍ في الدنيا، أجملهنَّ بروحِك، بمشاعرِك، أجملهنّ بملامحِك، بطباعِك، أجملهنّ بتفاصيلِك، َّ أجملهنّ حتى بأخطائك.

تحملُ ساي فجأةً، ويخشى هيروكي على صحتها، وينتهي الحملُ بموت الجنينِ واستئصالِ رحمِ ساي، فيعيشُ الزوجانِ حالةً من الصراعِ وتبادلِ الاتهامات، وتقتربُ علاقتهما من نهايتها حين تصبُّ ساي جامَ غضبها على البروفيسور دونَ حولٍ منه أو قوةٍ، ثم تتالى الأحداث بحبكةٍ دراميةٍ خلّابة ملؤها الخوفَ من مرارةِ الفقدِ وشبحِ الوحدةِ.

تمثلُ قصة ساي الصراعاتِ العاطفيةِ التي نعانيها في حياتنا، وألمَ الفقدِ الذي يجعلنا نعيشُ بقيةَ حياتِنا خشيةَ الشعورِ به مرةً أخرى، فنفوتُ فرصٌ كثيرةٌ دون اغتنامها كما حدث مع ساي بالضبط . تبكينا ساي وتضحكُنا في مواقفٍ عديدة تتلاحمُ فيها مشاعرُ الحبِ والهيام مع براءةِ وعبثِ الطفولة، عبثُ الطفولة الذي شغفَ قلبَ هيروكي في تفاصيلٍ عدة.

هي رواية تواسي ربّما مشاعر الكثير، كما كان واضحاً في إهداء الرواية في صفحتها الأولى: إلى كلِّ قلبٍ تألَّم حزنًا وعانى فراقا.إلى كلِّ روح انتظرت قربًا وتعبت اشتياقاً، إلى كلِّ كسرٍ لم يلقَ جبراَ.