عبدالرحمن عرفة
عبدالرحمن عرفة

د

ريك سانشيز: الحياة من منظور المتعة والألم

من أوجه العدالة الغائبة في هذه الحياة، أن الجميع يتجه إلى نفس المحطة. لربما اختار بعضهم قطارًا سريعًا وبعضهم الآخر بطيئًا، وآخرون قرروا أن يذهبوًا مشيًا، إلا أن المستقَرّ سيكون نفسه لدى الجميع، لا يمكن له أبدًا أن يتغير.

النهاية هي تلك المحطة الهادئة التي يقف عندها السائرون، فيحلّ السكون وتهمد الأصوات، ولا يكون هناك شيء يعلو صوتًا على الموت. الموت الذي قد تحبه تارةً وقد تبغضه تارةً، إلا أنه في جميع الحالات سيأتيك لا محالة.

لكن طالما هذا سيحدث، وطالما كلنا سنموت، كلنا سنسقط في يوم من الأيام لنتحوّل إلى جثة هامدة ستتعفن خلال مدة قصيرة، فسواءً كنت ظالمًا أو مظلومًا ستموت، سواءً كنت سيدًا أو عبدًا ستموت، سواءً كنت مؤمنًا أو ملحدًا ستموت، سواءً كنت طويلاً أو قصيرًا ستموت، سواءً كنت جاهلًا أو متعلمًا ستموت، لماذا لا تعيش حياتك بأقصى قدر ممكن من المتعة ضاربًا بعرض الحائط أي شيء آخر؟

طالما أننا سنموت على كل الأحوال، لمَ لا نتبع طريقة ريك سانشيز في الحياة؟!

ريك، الجد السكّير، العبقري المجنون، وبطل سلسلة ريك ومورتي التلفزيونية. تتلخص حياة ريك بأفكار مُثقلة بالألم والعدم، فالحياة لديه خالية من أي معنى ولا أي هدف ينبغي وصوله، خصوصًا أنه عالم وصل إلى ذُرى المعرفة البشرية، فكان كل شيء عنده سواء، فالحب والفلسفة والدين والأمل والمعنى ما هي إلا عناوين ساذجة لأشياء يمكن ببساطة للعلم أن يفسرها من وجهة نظره.

يبحث ريك في المسلسل بعد نهاية إيمانه بكل شيء عن المتعة لأقصى حد ممكن، كونه لم يعد هناك ما يثير الانتباه أبدًا في هذا العالم، والذي اكتشف أنه ما هو إلا عالم واحد من سلسلة عوالم كثيرة يمكنه أن يتنقّل بينها من خلال مُسدس أبعاد استطاع أن يطوّره بنفسه، مُشيرًا بذلك إلى نظرية تعدد العوالم التي تكلم بها جمعٌ كبير من العلماء والفلاسفة أيضًا.

لا تقتصر شخصية ريك على أنه مُعتل نفسيًا كونه مثالاً حياً عن شعار اللاإيمان بشيء في هذه الحياة، بل تتعداها ليظهر أنه معتل اجتماعي أيضًا، إذ يحاول دائمًا الهروب من أسرته المفككة ذات الثقافة الفردانية التي أوغلَ بها المجتمع الأمريكي، فنجد أن الأم – ابنة ريك – متورطة بحمل غير شرعي، ونجد أن جيري – صهر ريك – مواطن ممل عديم الشخصية فاشل في عمله، أما سمر – حفيدة ريك – فهي فتاة تحاول التمرد وقلب المفاهيم، وأخيرًا مورتي حفيد ريك الأصغر وزميله في المغامرات، شخصية محدودة الذكاء يسعى للفت نظر الإناث في محيطه المدرسي.

لا يكون من الجد العجوز بعد كل هذا إلا أن يترك عائلته ضاربًا إياها عرض الحائط، لينطلق في مغامراته نحو المتعة التي يجدها بالسفر بين العوالم. ولا يطول الأمر كثيرًا حتى يكتشف المشاهدون أن هذه المتعة ليست خالصة بنسبة 100%، إنما هي قشرة رقيقة لمداراة كم كبير من الألم الذي يحاول ريك إخفاءه.

رغم أنه مسلسل كرتوني، إلا أنه متخم بالأفكار العدمية والعبثية عن الكون والحياة، فريك سانشيز مثال صارخ على شخصية الإنسان المُفرط في الوعي، الإنسان الذي يعاني من ألم المعرفة، لا سيما أن عبارة: “وابا لابا داب داب” هي أكثر شيء يتردد على لسانه. وطالما أن كل شيء بلا معنى فلا بأس من تحقيق نوع من التسلية والترفيه، ولا بأس بتناول الخمر لتخفيف آلام هذا الجدّ الذي يُعاني.

قد يُعتبر ريك من أبرز الشخصيات ذات النزعة التفكيكية التي تحدّث عنها الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، نزعة أن كل شيء قابل للهدم وعدم اتخاذ أي مرجعية تُذكر، إلا أن تقديسه للعلم والعقل نوعًا ما يحول دون اعتباره كذلك، فتبقى شخصيته مترنحة بين العدمية وخلو الحياة من المعاني، وبين الاعتلال الاجتماعي وعدم أهمية البيئة الحاضنة، بالإضافة إلى السعي نحو المتعة والترفيه، في إشارة قد تكون مُبطنة للفلسفة اللذائذية التي أتى بها ابيقور، والتي تعتبر أن الألم هو الشر، واللذة والمتعة هي الخير.

فلسفة ريك عن المتعة ليست فلسفة حسية أبدًا، إذ نجده مهملاً لهذا الجانب، إلا أنها أقرب ما تكون لمحاولة إلهاء وترويح عن النفس، فمتعته تتلخص بالسفر بين العوالم، وإجراء تجارب عبقرية كتحويل نفسه إلى قطعة مخلل، أو محاربة الشر وغيرها من الأمور التي تدل على التوجه الابيقوري لريك.

وتتأكد محاولاته في البعد عن الألم والسعي للمتعة، عندما تنكشف حقيقة موت زوجته أثناء ولادتها في إحدى الحلقات، فتكون بمثابة بداية الخيط الذي أدى إلى تغيير ريك واعتلاله كله.

تترنّح حياة ريك أيضًا بين العبقرية والجنون، فتارةً نرى عبقريته تساعده في هزيمة الشيطان والهروب من سجن اتحاد المجرات، وتارةً نرى جنونه يتخذ منحى لا أخلاقياً، فيخلق بطارية لسيارته تُدار بواسطة شعوب كاملة! شعوب سخّرها لأجل هذه الغرض فكانوا مجرد عبيد ضمن حدود وعي دنيا لا يستطيعون من خلالها أن يدركوا عبوديتهم!

ليسَ هذا فحسب، يعاني ريك أيضًا من صراع الإيمان والإلحاد، فهو يعرّف نفسه بإنسان ملحد يؤمن بالعلم، إلا أنه أحيانًا عند مواجهته للخطر، يبدأ بترديد بعض الأدعية، وعندما يزول الخطر يعود لعدم إيمانه ويبدأ بالشتم والسباب.

يمكن تصنيف المسلسل تحت إطار الكوميديا السوداء الممزوجة بآلام المعرفة وفلسفات متعددة أبرزها، عدمية نيتشة، عبثية ألبير كامو، ولذائذية تتبع للتوجه الابيقوري، إضافةً للتطرّق إلى الكثير من معضلات الحياة التي أشغلت بالَ الناس ومازالت تفعل.


الحياة لدى ريك خدعة كبيرة، يعيشها الأبطال متظاهرين بالأهمية فقط لأنهم وُلدوا، دون أن يدركوا مستوى ضحالتها أو أن يصلوا لمستوى معرفي يؤهلهم لذلك، فتجد الأغلبية لا تعاني من شيء، إذ أنهم لا يملكون من الوعي ما يؤهلهم لذلك، أما ريك فيُعتبر كمنجم للألم، سواءً ألم معرفي وجودي ناجم عن وعيه الثاقب أو ألم اجتماعي ناتج من إحاطته بمجموعة من البُلهاء، أو ألم شخصي يتجلى بموت زوجته أيضًا.

فلا يبقى حينها سوى المغامرة والبحث عن المتعة للهروب من كل هذا. ولا نستغرب عندها من معرفة أن عبارة “وابا لابا داب داب” التي أدمن على قولها في كل الحلقات، والتي كشفَ سرّها أحد أصدقائه من المجرات الأخرى، تعني ساعدوني، أنا أتألم!

إذ أن ريك لا يخرج من كونه عجوزاً عبقرياً سكّيراً يعاني من الآلام، جارت عليه الحياة، فقرر أن ينسحب منها مديرًا ظهره لها، مستبدلًا إياها بمغامرات ممتعة بين العوالم لعله يجد شيئاً ما يواسي به نفسه، في محاولة بائسة للتعويض عن زوجة ميتة وابنة عاقة، وصهر فاشل، وحفيدة متمردة، وحفيد خانع متردد، وعقل تطوّر لدرجة أنه لم يعد يؤمن بأي شيء!

لكن إلى حين حصول تغيير لن يُحدث أملًا في تحقيق مفاهيم قد تخلى عنها ريك، تبقى المغامرة هي الهدف من كل شيء، وتبقى مناجاته في الحياة، وابا لابا داب داب!