هيثم عمر
هيثم عمر

د

رمضان.. محطة توقف إجباريّة!

تقدم إلى الأمام بتوجس وقلق شديدين، جال بعينيه في المكان، شعر باليأس، أغمض عينيه وألقى بنفسه داخل الظلام، ظلام ولد معه وترعرع بين خوفه وهوانه وضعفه. دفع قدميه إلى الأمام وانطلق يتحسس تلك العلب المعدنية، يمسح ما علق عليها من أدران وأوساخ، ويبحث دون علم وهدى عن كلمات حفرت بين طبقات الصدأ والحديد. اشتدت الحركة حوله، والتحمت أجساد المارة بجسده، حتى أصبحوا كيانًا واحدًا. ضاق صدره، واشتد ألم رأسه، استسلم للأمر، خارت قواه، وسقط مغشيًا عليه.

مرت الدقائق، غادرت القطارات أماكنها، فتحت أبواب وأغلقت أبواب أخرى، ومازال جسده ملقًا على الأرض دون حراك. احتشد الآلاف حوله، لا لإنقاذه، بل لأن أجسادهم تهفوا إلى قطرات الماء الساقطة من الغيم، قطرات كانت المنقذة للأرض وللحيوان، للإنسان وللجماد، بعد سنوات من القحط والجفاف. سقط الماء على جسده فارتوى وعاد الدم يسري فيه، التأمت تشققات جلده، ونمت النباتات حوله، لكنها سرعان ما أكملت دورتها وعادت إلى الأرض سمادًا لنبتة أخرى؛ لن تنمو ابدًا.

أحدث المطر شرخًا عميقًا في الظلام المحيط به، سامحًا للضوء بالنفاذ. استرق نظرة نحو الخارج، أعقبتها صرخة عظيمة. لم تكن تلك الأجساد أجسادًا تخص البشر، لا نظراتهم ولا أصواتهم. كأنها وحوش تشتهي القضاء عليه. وثب من مكانه، وهرول نحو إحدى تلك العلب المعدنية – أو القطارات – التي تزمجر بغضب، وتنفث دخانًا قاتم السواد، يشتد سوادًا مع كل ثانية تمضي على قرص الساعة. علم أنها تستعد للمغادرة بعيدًا دون عودة، فأسرع، وقفز داسًا جسده المضغوط بشده داخل القطار، أصدر سقوطه صوت انكسار أنذر بتحطم بعض العظام، لم يأبه لذلك كما الآخرين. تألم قليلًا، لكنه سرعان ما أغلق فمه كاتمًا ألمه، خوفًا من نظرات الاستنكار والرفض المحيطة به، نظرات كبلته طوال حياته، لا علم له بمصدرها، ولا دليل مادي على وجودها؛ لكنها ستبقى ملازمة له حادةً من أفعاله وتعابيره.

رفع رأسه، ومسح العربة من الداخل بعينيه بحثًا عن مكان يؤويه خلال رحلته الأبدية. فوجدها – العربة – مثخنة بالركاب إلا مقعدًا واحدًا يجاور النافذة، نافذةً مغلقةً لا ينفذ منها الضوء أبدًا. توجه نحوه، نفض الغبار عنه، وألقى جسده عليه. انطفأ الأمل في عينيه وبقي هناك حتى ما عاد قادرًا على العد.

تلك هي الحياة، مئات المسارات المشيدة، وآلاف النهايات. عليك الاختيار بينها.

نحيا طوال العام بين لهو ولعب، مشغولين بأعمالنا وأسفارنا، ننفق أموالنا على الطعام والشراب بغير اعتدال، ونضيع أوقاتنا على ما قل نفعه، ونلوم الوقت على ضياعه!!

جاء رمضان، كأنه محطة توقف إجبارية لقطارات الحياة، محطةٌ وجب وجودها والوقوف عندها لتعيد لأذهاننا حقيقةً غابت عنا طوال العام، حقيقة بسيطة. وهي أن الإنسان خلق للعبادة أولًا وعمارة الأرض ثانيًا، وأنه لم يخلق لجمع الكنوز وبناء القصور، ولا لحشو أمعائه بالطعام، ولا للانشغال بالعمل وملأ جيوبه عن العبادة والدعاء. فإن لم يقم الإنسان بالهدف والغاية من خلقه، فلم خلق؟!!، وإلى أين سيقوده عمله؟!!

خلال رمضان، توقفت أسنانا عن مضغ الطعام بلا حاجة ونفع، وعقولنا عن السعي نحو الشهوات والتفكير بكيف وأين ومتى ستملأ ذلك الثقب الموجود بين أحشائنا. كففنا أفواهنا عن نهش ومضغ لحوم البشر، وأمسكنا أيدينا عما فسد من أفعال، وأرجلنا عن الهرولة نحو الآثام والمفاسد، وأبصارنا عن النظر نحو ما يسوئنا ويوقعنا في الإثم. خلاله شعرنا بقيمة الوقت، وخلاله أدركنا أن ذكر الله يعيد للروح رونقها ونضارتها، وأننا قادرون على ختم القرآن عدة مرات لا قراءة صفحة واحدة منه فقط!!

خلاله هذبنا أخلاقنا، وذكرنا الله كثيرًا، وخلاله هدأت نفوسنا واجتمعت قلوبنا وأجسادنا على طاولة واحدة، نأكل دون خوف من الجوع، ونعطي دون خوف من الفقر. ألقينا بأحمالنا بعيدًا وانكببنا على العبادة والذكر والعمارة لا غير.

فهل ساءنا ذلك؟!!

هل نقص مالنا؟!!

أم أننا خلدنا إلى النوم دون طعام يكفينا؟!!

رمضان نعمة عظيمة، خلاله أنزل الله القرآن، وخلاله تصحوا عقولنا من سباتها. لولا رمضان لبقينا تائهين، ولولاه لما توقفت قطاراتنا أبدًا. فلم لا نتخذ من رمضان وسيلة للتغير والتبديل؟ ولم لا نتخذه قالبًا يزين أعمالنا وأفعالنا خلال شهور السنة كلها؟.