نورالدين خنيش
نورالدين خنيش

د

المثقف السايكوباثي

الذي ينظر إلى الوقت الحاضر، وكيف جعلت وسائل التواصل الاجتماعي والميديا على حد سواء نمط حياتنا يعي بالفعل أننا أمام معضلة كبيرة جداً، قد تمتد لعقود من الزمن، وذلك من خلال استهلاكنا لمختلف الأخبار المغلوطة، الاشاعات المغرضة والمعلومات المشكوكة وذلك دون أدنى خضوع للفلترة. وإن كانت هذه التكنولوجيا قد استفحلت بالفعل، فلا يمكن في المقابل أن ندحض الدور الكبير الذي تحوزه الكتب والروايات في صناعة الفكر العربي هو الأخر ودون أن ننسى المسؤولية الكبيرة للمثقفين في ضبط البوصلة وتحديد الطريق لجيل هذا العصر.

في إحدى مقاطع الفيلم المغربي الزيرو للمخرج نور الدين لخماري تحضر شخصية الوالد المشلول، هذه الشخصية الساخطة على كل من الحياة، السياسة والوطن. وكل ما يسعى إليه هذا الأب هو علاقة جنسية تعيد إليه شغف الحياة، أمجاد الشباب وإحياء الأنا الغابرة مع مطبات أرذل العمر. إذا تصالحنا مع أنفسنا للحظة وقربنا الصورة سنجد أن هذا المثال يمكن إسقاطه ببساطة على الرواية الجزائرية بصفة خاصة والمغاربية بصفة عامة. هذه الرواية التي أصبحت مقعدة بالفعل على كرسي متحرك تصارع الماضي، ساخطة على الحياة والسياسة، تتأرجح بين حدثين لا ثالث لهما، فإما الثورة التحريرية  وذلك من خلال إدراج الحياة وأما فترة العشرية للحديث عن السياسة والدين. حتى أنه قد يخيل للقارئ وكأن ساعة الرواية الجزائرية قد توقفت. وللتفكير خارج الصندوق، يفسح الكاتب والمثقف العنان لخيالاته الجنسية ومشاكله النفسية ليضع لمسة الجنس والكتابة الاروتيكية، فمن النادر أن تحمل رواية جزائرية دون أن تصاب بالصداع من كمية الحشو الذي لا يسمن ولا يغني من جوع.

الجنس صرخة اليأس

يأخذنا أحمد مراد على لسان بطل روايته الفيل الأزرق، الدكتور يحيى راشد والذي هو معالج نفسي بمستشفى العباسية. حين يجد نفسه مرغماً على تحليل لغة جسد أحد الشخصيات معه على طاولة لعبة  البوكر، هذا الشخص الذي أسرف في الكلام حول ليلة قضاها مع إحدى النزيلات الروسيات في الفندق، لم يستسغ الدكتور يحيى راشد القصة ولكن صاحب القصة ألح عليه أن يحلل كلامه، وهنا طلب الدكتور يحيى منه أن يعيد أحداث القصة من النهاية للبداية. وهنا بدأ التوتر يزيد، والأحداث تترامى عشوائياً ليصفعه في النهاية أنه بنسبة التسعين بالمئة يعاني من  ‘عجزجنسي‘ ويحاول اخفائه بقصص وهمية من نسج الخيال. وهذا يقودنا إلى استنتاج آخر، أو بالأحرى استنباط فلسفي آخر. فإذا كان هذا الاسهال والإسراف في الكتابة عن الجنس من قبل المثقفين بصورة دورية وتحت أي ذريعة  من الذرائع، ألا يقودنا هذا إلى التساؤل إن كان الكاتب والمثقف يغطي عن عجزه الجنسي بالكتابة المثالية والإطناب في الحديث عنه؟ والتمويه بالجرأة الأدبية لبناء حاجز وهمي من طرف الكاتب لنفسه بالرغم من أننا اليوم قد تجاوزنا هذا الطرح الذي يقول بـ عقدة العالم العربي من الجنس أو بعبارة أخرى.. هل أغلب المثقفين والروائين الجزائريين يعانون من ضعف جنسي!

كواليس المثقفين المظلمة

هناك تباين كبير في جزئية تحليل جانب الكتابة الايروتيكية من قبل القراء في الجزائر. فهناك جزء يعتبر أن هذا الأمر مجرد حشو من قبل الكتاب، في حين أن آخرين يعتبرون أن هذا الأمر أشبه ما يكون بدعاية وإعلان ممول لحملة تجارية كما يحدث في الغرب، أما صنف آخر فيعتبر أن هذا أمر محرم، ولا يسعه سوى أن يدعو بالهداية لهؤلاء المثقفين. وهنا نفتح باباً آخر للتساؤلات: هل وصل الروائي والمثقف في الجزائر إلى مرحلة يستطيع أن يفصل فيها بينه كشخص وكإنسان وبين شخصيات روايته، أم أنهم لم يستطيعوا أن ينتقلوا إلى المستوى التالي كما حدث معهم في الساعة التي توقفت؟ هل علينا أن ندرك أن أحداث الرواية متعلقة بشخصيات الرواية أم علينا أن نفهمهما على أنها نزواتهم وقصصهم لإخفاء العجز الجنسي الذي يعانون منه؟

في جزئية أخرى وجب علينا أن نتفق على أن القارئ الجزائري اليوم قد تجاوز الكثير من الروائين والكتاب والمثقفين المحليين، لأنه أصبح مطلعًا على الرواية العالمية ويلمس في توظيفها جمالية معينة وهدفاً يريده الكاتب الآخر الذي لا تظهر عنده هذه البذاءة في الكتابة؛ بمعنى أنه عندما ندرك الجمال ونلمسه نصبح قادرين على تمييزه من البٓشِّع واللاّجمالي.

في المسلسل اللبناني-السوري للكاتب المخرج رامي حنا، سلطت الاضواء على شخصية بطل القصة يونس جبران، والذي هو كاتب نرجسي نجح في مجال الكتابة، وهذا زاد من نرجسيته بشكل رهيب، إلى أن أصبحت واحدة من عقده النفسية. هذه النرجسية جعلت من إمبراطوريته تنهار، والأكثر من ذلك جعلته يضيع في متاهات لا نهاية لها، فعبارة أنا يونس جبران كانت كفيلة بأن تلغي جميع تحليلاته العقلانية. “يونس جبران” كان يقيم علاقات سرية في منزله الخاص الذي يتفرغ فيه للكتابة ويقوم بإغراء الفتيات من خلال الوعود التي ستحقق أحلامهن في ولوج عالم الكتابة والنجاح وتحويل أعمالهن لأفلام ومسلسلات. لكن تنهار المملكة بعد اتهامه بقتل إحدى معجباته ويتحطم  كل شيء مثالي كان يصنعه لنفسه ما عدا نرجستيه التي صمدت لآخر دقيقة من المسلسل “أنا يونس جبران” التي بقي يرددها طيلة المسلسل واقفًا بكل شموخ وثقة.

قد يكون عالم الأدباء مثاليًا ومنمقاً بصورة فنية ساحرة ولكنه يخفي عالماً من الأسرار يمكنك أن تقرأه في روايتهم إذا كنت ضليعاً في قراءة الفنجان والكفّ.

المثقف وصوت القرين:

“لابد من العزف لقلبك قبل الآخرين”.

ياني كريسماليس-

يقول الياباني هاروكي موراكامي أنه يستحضر طقوس يلج من خلالها عالم الكتابة إذ يتحدث عن بوابة يدلف منها إلى عالم الفانتازيا ورحلة البحث عن تفسير لهذا العالم وأسراره، عندما يدخل موراكامي إلى عالمه تغيب شخصيته الواقعية لتضيع في غيبيات اللاوجود والعبث فهو ينسلخ منها ولا يتركها مخبأة محفوظة من التييه، فالكاتب يغيبها ويدخلها في حالة من الخضوع للمخيال لتصبح تابعة لشخصيات في الروايات وأحداثها وقد ينجح الروائي في مزجها بالمخيال لتنتج لنا شخصيات لا نراها نحن ولا نسمعها ولكنه يراها ويسمعها يؤثر ويتأثر بها وفي الغالب ما يصل الأمر إلى إنفصام في الشخصية قد يدمر حياة الفنان أو المبدع فكثير من المثقفين يعيشون بشخصيتين وكثير منهم يعالج في مصحة نفسية في نهاية المطاف، الأمر نفسه نستقصيه من العبارة التي قالها “ياني” حول العزف للقلب إذ من الممكن أن يملك شخصية موازية تمنحه الموافقة حول أي معزوفة يؤلفها وتصفق له و يحاورها حول النغمات وخبايا الموسيقى ويحاورها في أهم قضايا حياته ، لتصبح ذات ثانية خاصة به.

هل كنت حاضراً في جلسة نقدية لأديب يدافع بشراسة عن إحدى شخصياته؟ أو موضوعاً سرياً يعتبر الكاتب نفسه فارساً شجاعاً لأنه يخوض فيه؟ وهل حدث أن إنفعل الكاتب أو الأديب لوهلة دفاعاً عن شخصياته مبتعداً عن الفكرة الأساس! إحذر إذا فمن الممكن هنا أن تكون قد توجهت للجانب الخفي من شخصيته وقد يأخذ الأمر على أنها إهانة له لا نقدا أدبياً علمياً. من دون إدراك منك قد توقظ جراحاً وخبايا يخفيها الكاتب في الشخصيات، ويعتبر أمر الكتابة عنها بمثابة فعل وجودي وإثبات للذات، الملاحظ أن فعل الكتابة الإبداعية يصاحبه إفراغ للمكبوتات بطريقة باطنية لا يشعر بها المؤلف وفي نفس الوقت يشعر بأنه يكتب ذاته ويعبر عن ماضيه وأفكاره حتى أنه يخلق تلك الشخصية المثالية التي يريد أن يكونها في الواقع وغالباً تكون شخصية طيبة تواجه شخصيات مليئة بالأحقاد والكراهية والنفاق وغيرها من سلبيات الإنسان، في النص يواجه الكاتب نفسه لا المجتمع فالكمال الكامن بداخله يواجه كل سلبياته والنقائص التي تعتريه وعندما ينتصر الكاتب على نفسه ينتج لنا نصاً إبداعياً يُحكم عليه من طرف المتلقي الذي هو بدوره يقرأ نفسه في ذلك النص .

النص والأنا الإفتراضية؟

من الشائع الآن أن أي شخص يريد التعرف عليك أول خطوة يقوم بها هي البحث عنك في منصات التواصل الإجتماعي في الكثير من الأحيان أكّون فكرة عامة عن الشخص من خلال صفحته الخاصة وفي أحيان كثيرة لا أخطئ، وما ألاحظه في الآونة الأخيرة أن معظم الكتاب والمثقفين يضعون غلاف رواياتهم وإنتاجهم الأدبي في الحيز  المخصص لصورة الشخصية الأمر ليس إعتباطياً أو صدفة إنه أمر مقصود حتى ولو كان من دون إدراك وبتصرف من العقل الباطن فذلك الحيز الإفتراضي مخصص للصورة الشخصية فالكثير من المثقفين يضعون نتاجهم هناك بحجة الإشهار ولكنهم يطرحون لنا عن غير قصد هويتهم وذاتهم الشخصية فكنت أنا وزميلي نحاول قراءة تلك الإنتاجات قدر المستطاع لنحاول إبصار الجانب المظلم من أولئك  الكتاب، إنهم لا يشعرون وهم يدفعون بذاتهم مكتوبة في صفحات قد يطالها بعض التجميل الفني ولكنها في المجمل تعبر عن ذلك الشخص وهويته أحلامه وألامه أحزانه وشهواته إنكساراته وحقيقته فأغلب الأعمال الإبداعية المحتجزة في ذلك المكان المخصص للهوية هي تلك الأنا المقيدة تنتظر منا قراءتها وفهمها  ولعّل  هشاشة فن الرواية لدى الشباب اليوم وضعف مستوى الكتابة لدى الغالبية يرجع لإنسلاخ رهيب يعيشه الشاب اليوم ولنا في عناوين الروايات أمثلة عدة.

وصلتني العديد من الرسائل من فتيات يافعات كنا قد تعرضن للتحرش من قبل مثقفين بارزين على الساحة الأدبية الجزائرية. حيث أن هؤلاء الفتيات وقعن في فخ الصورة المثالية التي رسمها الروائي والمثقف الجزائري لنفسه. ولا يخفى على أحد أن السنوات القليلة الماضية كانت كفيلة بأن تدفع الشباب إلى العودة لرفوف المكتبات واقتناء الكتب والانكباب على القراءة سواء محلياً أو عالمياً. لذلك لا يسعنا أن نقول في النهاية أن المثقف والكاتب والروائي الجزائري عليه إعادة ترتيب أولوياته ومحاولة فتح آفاق جديدة والانسلاخ من رداء الاستاذية الذي عطل جيلاً كاملاً على التحرك.