غادة العمودي
غادة العمودي

د

إحالة الشِّـعر

(لسنا وحدنا في هذا الأمر!) كيف لنا أن نخلص إلى أن هذه هي كل وظيفة الإبداع الكتابي!؟

إذ سواء أكنا نبحث عن عزاء وتسلية، أم نفتش دربا نحو اكتشاف الذات، أو نتحلى رغبة في حد الرغبة ذاتها؛ فإننا نطلب من الفنون الكتابية، أن تخبرنا أننا لسنا وحدنا الذين نشعر بهذا الشعور، ولسنا وحدنا في تيه الأفكار، ولسنا الوحيدين ذوي القابلية للدخول في حال الانظلام.

لعل واحدا أو أكثر منا، قد أدرك أحد كبار العمر والخبرة، ممن لو شاهد حادثة تراه يستدعي من حافظته بيتا من الشعر يوافق أو يعتب أو يعلّم درسا من الموقف المعاصر. وهو في ذلك، يعيش نشوة أن “لا مفاجأة” في الحياة، إنما هي تكرار للنماذج ما دامت النماذج تعيد ابتكار أهلها ونزواتهم.

الشعور بالوحدة، الشعور بالتعاسة، الشعور بأننا غير قادرين على تجاوز ألمنا؛ هي عتبات في مسيرة تطورنا، وحتى نتجاوز المرحلة لتؤول خبرة، يلزمنا أن “نعبّر” عنها قبل أن ” نعبر” عليها.

من هنا يأتي الشعر في أن يحفل بسجل غير مباشِر لمواقف الإنسانية الصعبة مما يمر به الشاعر، ولو قبل ألف عام ويزيد، ثم نمر به نحن بعد آلاف الأعوام ويزيد.

هذا شيء من سلوك التداوي بالشعر، فالشعر المتوجه في الأساس للمس العاطفة- يمارس ذاكرته فينا لكي ينبهنا على الرهافة الجامعة لكوننا بشر. فأن نشعر بأن آخرين قد مروا بما نمر به وعبروا عنه، ثم حمله لنا تاريخ القول عبر التربيت على باطن أرواحنا؛ من شأن هذا الهمس القادم من قلوب تاريخية أن ينعش فينا فعل التصبر، بأكثر مما تفعله الموعظة وإن كانت حسنة.

في واقعنا اليوم تجاذبٌ أغلق علينا فهم ما يدور في قلوبنا، إذ قد نعبر عن الرغبة بالحب، وعن الخيبة بالطمع، وعن الضياع بالترفيه، أي أننا لم نعد نحسن إيقاع اللفظ على الخفي من العاطفة، والعاطفة فروقاتها دقيقة جدا. ولا أظن أن هذا الكائن العميق في شجونه والمعجز في تكوينه، أي الإنسان، يمكننا أن نحدد عالمه العاطفي بكلمات معدودات. ولأجل هذا الاتساع في الكيان البشري، يسعفنا الشعر مرة أخرى في إدراك ما ننوء عن فهمه من مشاعرنا، بل ونتعثر في الحديث عنه.

إن الشعر كما هو دواء الخاطر، فهو كشف لما يعتمل فيه. إنه فن تشخيص الشعور، ثم التعريف به، ثم المواساة عليه.

فلا علينا لو اعتبرنا – بقوة- بأن حاجتنا للشعر اليوم هي لتحديد ” من نحن” ككائنات يغمرها الشعور في غالب أحوالها، ويعجزها تبيّن طبقات هذا الشعور أيضا.