لينـا العطّار
لينـا العطّار

د

المساحة الشخصية..حقيقة أم مجرد وهم اخترعوه وصدقناه

عندما تقابل أحدهم للمرة الأولى ويقترب منك ليعانقك أو يسلم عليك بحرارة ويقبلك فإنك ستجفل تلقائياً وتبتعد عنه وتجد أن تصرفه غير لائق ولا يحترم مساحتك الشخصية، وهذا طبيعي ومن حقك الشخصي فالاختصاصيون يقولون أن كل شخص يمتلك مساحة شخصية على المستوى الفيزيائي، ولكن تأثيرها ينعكس على المستوى النفسي لأن الإنسان الذي يتم اختراق هذه المساحة الخاصة به أو تجاوزها بغير رغبة منه يتأثر وقد يبدي سلوكاً عدائياً في بعض الأحيان كرد فعل للحفاظ على خصوصيته.

يعتقد العلماء أن اللوزة الدماغية هي المسؤولة عن ردود أفعال الأشخاص القوية عندما يتعدى الغير على مساحاتهم الشخصية، حيث تختفي ردود الأفعال تلك لدى الأشخاص الذين يعانون خللاً في اللوزة الدماغية، بينما تنشط اللوزة الدماغية عندما يقترب الأشخاص من بعضهم البعض جسديًا.

كان إدوارد تي هال أول من قدم فكرة المساحة الشخصية، وهو من أنشأ مفهوم القربيات. وفي كتابه البعد الخفي (1966)، وصف الأبعاد الموضوعية التي تحيط بكل شخص وأيضا المساحات المادية التي يحاول المرء أن يضعها بينه وبين الآخرين، حسب الفروق الثقافية الطفيفة.

تختلف هذه المسافات حسب البيئة والثقافة وكل بين كل شخص والآخر، وطبعاً هذه المساحة يتم تجاهلها تماماً في المواصلات في البلاد العربية ومن الصعب أن تتحدث عن مساحتك الشخصية التي لا تحب تجاوزها في ميكروباص مزدحم قد عانيت للحصول على مكان تسند فيه نفسك ريثما تصل إلى وجهتك.

لكن ماذا عن المساحة الشخصية النفسية؟

لم أجد من يتحدث يوماً عن هذه المساحة، على اعتبار وجودها المعنوي وليس الفيزيائي، فهو وجود لا يمكن قياسه بالمتر أو المتر المربع، وللأسف نادراً ما أجد من يحترم تلك المساحة ولا يخترقها بكل وقاحة ليثبت وجوده فيها دون أن يدعوه أحد أو يرحب به.

تجلسين في اجتماع عائلي أو مناسبة ما وترين أشخاصاً للمرة الأولى ستنسين وجوههم بعد أن تخرجي من الباب، ولكنهم يجدون الجرأة والقدرة على اقتحام مساحتك النفسية الخاصة وسؤالك عن سبب تأخر زواجك أو تقديم النصيحة لكِ كي تنجبي المزيد من الأطفال أو إعطاءك الكثير من وصفات الريجيم التي جربتها ابنة عم جارتهم التي كانت تسكن مقابلهم في الحي السابق، ولا يتركون نصيحة أو وصفة قرؤوا عنها أو سمعوا عنها من التلفاز وبرامج جمالك سيدتي إلا ويخبروك بها، وسيكون عليك الابتسام وهز الرأس والموافقة على مايقولون وإلا ستكونين وقحة!..ولا يعني هذا أن من يتكلم أكبر منك سناً، بل ربما أصغر..لكنها الرغبة اللعينة في الظهور بمظهر العارف بالأمور….ولا أدري لماذا لا تعمل اللوزة في هذه الحال وتجعلك تبدين رد فعل عنيف على هذا الاختراق السافر الذي حصل لخصوصياتك!..

وقد تجلس أنتَ كشاب مليء بالأحلام والطموحات مع بعض أفراد العائلة أو أصدقاء الوالد وتقوم بواجبك بالتواجد معهم، وتبدأ الأسئلة عن دراستك أو عملك ومستقبلك وعندها ستقوم أنت بحسن نية بالحديث عن أحلامك وطموحاتك، ولن تعلم من أين ستأتيك اللكمات المعنوية والضربات النفسية وترديك أرضاً أنت وأحلامك كلها بعد كل الشحنات السلبية التي لم يوفروها عنك…وقد يحدث هذا مع زملاء العمل أو خطيبتك التي تفكر فقط في نفسها والشقة التي عليك تجهيزها أو مع صديقتك التي لا يعرف قاموسها سوى كلمة التسوق وما يرادفها من كلمات ومشتقات!..

عن أي خصوصية أتحدث؟

في الحقيقة، لا أحد مطلقاً يحترم خصوصية الإنسان أو حدود عقله ويتجرأ الجميع بحشوه بما يريدون من معلومات وأفكار ابتداء من سن المدرسة التي يأخذون فيها مناهج وضعها أشخاص لا يعيرون أي أهمية لهم، انتهاء بالإعلانات التجارية التي تضع في رؤوسهم المنتجات الأفضل والملابس الأفضل والشركات العالمية التي تخبرهم كيف عليهم أن يرتدوا ويسيروا ويكون شكلهم حتى أن الأمر وصل ليكون لجميع الفتيات والعارضات في التلفاز والإعلانات نفس الأنف والخدود والعين وشكل الجسم المنحوت كما يرون أنه أجمل..باختصار تم تلقيننا معايير الجمال وكل شيء بالتفصيل لنكون نسخاً متشابهة.

في السابق كان الأهل والمجتمع هو من يساهم في تحديد مستقبل الشاب أو الفتاة المهني والدراسي ويدفعونه لاختيار فرع معين حسب فكرة (أنه الأفضل اجتماعياً) وله المردود الأفضل أو أياً كانت الأسباب، الآن انحسر هذا الدور من الأهل والمجتمع لكن وسائل الإعلام حلت محله بقوة لتطرح أمام الشباب مهناً ونماذج محددة بكثرة على أنها النماذج الناجحة ليكونوا مثلها، فصار الجيل الجديد كله يحلم أن يصبح مطرباً أو ممثلاً ويركض خلف الاشتراك بمسابقات الغناء ويسعى ليكون (النجم القادم)، وكل الفتيات ترغبن أن تصبح (فاشينستا) ولا تقوم بعمل أي شيء سوى ارتداء الملابس وتصوير نفسها وإسداء النصائح وزيادة عدد المتابعات أو الإعجابات على وسائل التواصل الاجتماعي.

وحين ترى شاباً واعياً قارئاً، ستجده قد قام بعمل قناة لنفسه على اليوتيوب وبدأ بالحديث عن أي شيء قرأ عنه بعض الكتب واستعراض ثقافته أمام الجماهير المعجبة التي صارت تبحث عن الثقافة عند هؤلاء الأشخاص وهي كما وجبات (سناك) لا تسمن ولا تغني من جوع بل أن ضررها أكثر من فائدتها لأنها تعطي جزءاً من المعلومة على أنها كلها..ولا أحد يبحث ليعرف أكثر عنها.

والأسوأ من هذا كله، تلك الاختراقات التي تحدث عبر الأثير على وسائل التواصل الاجتماعي ليرسل لك أحدهم لا تعرفه ولا يعرفك، رسالة طويلة يخبرك فيها عن رأيه فيك –وكأنك سألته أصلاً- ومن ثم يحلل منشوراتك ويقيم شخصيتك من خلالها ويبدأ سلسلة النصائح التي يعتقد أن من واجبه الإنساني أن يخبرك بها!..ولا أدري من أعطاه هذا الحق أو أخبره أن هذا واجبه..

وحين تجرؤ لوهلة وتعتقد أنك تملك بعض الخصوصية، تذكر أن معلوماتك الشخصية وأخبارك وحركاتك كلها متاحة على الفضاء الالكتروني حيث لا سرية، وأن ملابسك كلها قد فرضها عليك بعض الأشخاص الذين اعتبروا أنفسهم رواد الموضة في العالم وقرروا ماهي الألوان التي سترتديها هذا العام وهل ستعود موضة التنورة الطويلة التي تكنس الأرض أم أنهم سيكتفون بالبنطال الجينز الممزق؟.