ولاء عطا الله
ولاء عطا الله

د

كلا، ولا شيء..

القلب عليل، منكمش هو بين جدرانه المتصدعة كأنما هجره أحدهم للتو، بل كأنما طُعن بسلاح سحري محولا إياه إلى سكون شاسع مغبر بالعواصف و ظلال الفزع البائد؛ فصارت كل آلالمه كنغمات خافتة بالكاد تصل بكل جوارحها إلى الأسماع، وإذا وصلت يُطلب إعادتها مرة أخرى للتأمل، وكأن عليها أن تتعذب مرتين كي تثبت جدية انتحابها الصامت المميت!

الأحلام.. تلك النقاط البيضاء المتخفية بمعزل فاق عزلة صاحبتها، قد بالَغت في حجب رغباتها الحقيقية فبدت الأخيرة كدُمية باهتة الملامح.. فاتحة على نفسها تأويلات فوضوية تدعو إلى السخرية في آن، وإلى الارتياب في آن آخر؛ حتى طفت على الروح علامات مدمرة و مقلقة. كانت تستوجب زيارة طبيب نفسي وقتذاك، أما الآن وبعدما امتهنت الارتجال النفسي لأعوام، تركتها تهيم بلا اكتراث.. علها تتلقى صفعة جديدة من واقعها الميئوس منه.

“أنا لست هاربة من أحد أو من شيء.. أنا هاربة من نفسي” وهاربة من نفسي تستدعي تفتيش الماضي لكنني قد أسدلت عليه ستارا ثقيلاً لا أجرؤ على إزالته. غريب أنني لست ممن يفكرون في الماضي ومع هذا أجد الأوجاع مختومة ببصمته اللعينة. أمعقول أنني أخدع نفسي طوال هذا العمر؟ حقيقة لست مبالية، أنا لست مبالية بأي شيء على الإطلاق، ومن كثرة لا مبالاتي المبالغ فيها يتهمني البعض أنني على النقيض، تتهمني أفعالهم ونظراتهم على الدوام، ولكي أنفي تلك التهم المضحكة، أبتعد.. أبتعد كثيراً حتى أُنسى، وأنا أود أن أُنسى نهائياً، لأنني كلما قابلتهم تخبرني تصرفاتهم وعيونهم الفرحة لرؤيتي أنني لست ممن يتناسون بسهولة، وهذا كان يزيد من وطأتي؛ فكل محاولاتي في جعل نفسي منسية وغير مرئية تسقط اتباعا عند مقابلتهم، بل أن محاولاتي ذاتها تبدو كمزحة سخيفة حينما تكاد ابتساماتي أن تتحول إلى قُبل وعناق!

نزار يقول في رائعته (قارئة الفنجان) “مقدورك أن تمضي أبدا في بحر الحب بغير قلوع، وتكون حياتك طول العمـر كتاب دمـوع. مقدورك أن تبقى مسجوناً بين الماء وبين النـار. فبرغم جميع حرائقه.. وبرغم جميع سوابقه، وبرغـم الحزن الساكن فينا ليل نهار.. وبرغم الريح وبـرغـم الجو الماطر والإعصـار. الحب سيبقى يا ولدي أحلى الأقدار” ولكن اعذرني يا نزار، فأنا أستخدم كلامك الرقيق هذا ليس لإثبات روعة الحب، إنما لأنني ذلك الشخص الذي مضى في بحور التيه بغير قلوع تدلل على موقعه حينما يختفي أثره. وعندما ضل الطريق آثر الانزواء متنقلاً من سجن لآخر..
فبرغم جميع عذاباته و أمواجه الغادرة، وبرغم الصمت القاهر الساكن فينا ليل نهار، وبرغم الخواء، وبرغم الجو القاتم والانحصار.. التيه سيبقى أحلى الأقدار!!

أنه أحلى لأنه لا يجبرني على فعل أشياء لا أريدها أو لا تشبهني، حتى أن سُجَّانه قد أثارتهم مدى مقاومتي، فصاروا يؤرخونها على جدران معابدهم، حتى كلما أوشكت على الانهيار يذكروني بها! ثم يضيفوا همسا “هنا تكمن قوتك الحقيقية” وأنا لا أعرف أي قوة يقصدونها! ولكن أتراهم يمدحونني كي أبقى؟ كلا، أنهم يعرفون أن أوردتي قد تشربت كليا بوجودية تيههم المحبب وإن بدا كخلاء العالم الأول.

محرم فؤاد أضحكني بمرارة منذ برهة وهو يردد في حسرة “يا ناس من جرحه قلبي استوى
والعمر ضاع في الهوى
يا ناس لو كان يا ناس انكوى
كان جاب معاه الدوا” لطالما خطفتني تلك الأغنية كلما أعدت تشغيلها. ثمة وجع غامض يعتريني في حضرتها خاصة وهو يردد ذلك المقطع بذات الوجع الذي أحسه “والعمر ضاع في الهوى.. العمر ضاع في الهوى” كأنني ضيعت عمري في الهوى مثله!
ولاء.. هل تريدين قول شيء معين قبل أن يتمدد تيهك ويتسع فنفقدك نهائياً؟! كلا، ولا شيء..