هدير طارق البدوي
هدير طارق البدوي

د

لم يكن صديقي

نكتب لنفهم، لنفهم أنفسنا ومشاعرنا وأفكارنا… كما نكتب لنفهم الآخرين، ما يفكرون به وكيف يرون العالم… الكتابة بالنسبة لي هي نوع خاص من الحكايا، لا أستطيع أن أستجمع أفكاري أو أُرتب الكلمات حين أتكلم، فألجأ للكتابة لتحكي كتاباتي بالنيابة عني… إلا معه، لكنه لم يكن صديقي.

أردته أن يكون، أردت ذلك بشدة، أستطعت معه أن أحكي بسهولة وأريحية كما أكتب، على الأقل شعرت بالارتياح لأفعل، لكنني لم أحكي له قط، فهو لم يتقبل الأمر، لم يتقبل صداقتي ولم يسع جاهدًا لها، لم تسمح له رجولته أن يُصادق فتاة، كما غنت ماجدة الرومي: “غير أن الشرقي لا يرضى بدورٍ غير أدوار البطولة”.

أتذكر أن صديقتي قد تذمرت منذ عدة سنوات أن أصدقاءًا لها لا يبادلونها الحب، كان ردي وقتها قاطعًا، ليس عليهم أن يفعلوا، لا يعني حبنا لأحدهم أن عليه أن يبادلنا الشعور، لا تعني ثقتنا بهم أن عليهم الثقة بنا، بل وأن ارتياحنا في الحديث معهم ليس ضروريًا أن يقابله ارتياحًا من قبلهم.

قد تكون كل رسالة نرسلها، أو حوار نفتتحه، أو حتى جلسة صامتة نتسبب بها ونشجعها ثقلًا نضعه بغير علم على صدورهم، قد تكون أسرارنا تلك التي نتبرع بها ليحملوا عبئها معنا آلامًا إضافية لما يشعرون به.

لا يعني الأمر بأي حالٍ إنهم شخصيات سيئة، لا يجوز تصنيفهم تحت مسمى “الخازوق” كما  نُطلق الآن على بعض التجارب الموجعة، ليس وأن تصنيف الآخرين حقًا لنا، لكن إن كنا سنفعل فلا يجوز… يمكن إعتبارهم أكثر من قابلناهم وضوحًا وأقلهم إيلامًا لنا، فهم لم يحاولوا خداعنا، لم يعدوا ما لم ينفذوه، فعلنا ذلك بأنفسنا.

بالرغم من ردي القاطع وقتها لازال قراري مؤلمًا لي، يتطلب الأمر مجهودًا لأمنع نفسي من سؤاله أسئلتي الكونية، أو أن أشاركه إنجازاتي الصغيرة، أو أحكي له عن أوقات مرضي، أو أن أطلب رأيه في قراراتي، لكنه لم يكن صديقي.

لا يحق لي حتى هذا الألم، وبالتأكيد لا يحق لي تحميله بذنبي.

حين شعرت بالراحة لأول مرة أخبرتني طبيبتي أن أبذل مجهودًا لأُنشيء هذه الصداقة، كنت بحاجتها وبسبب مشاكلي النفسية مع البشر احتجت أن أبذل مجهودًا إضافيًا، رفضت الفكرة، رأيت وقتها أن الصداقة لا يجب أن تتطلب مجهودًا لتنشأ، بالطبع تتطلب مجهودًا من الطرفين لإبقائها، كأي علاقة، لكنها لا يجب أن تحتاج مجهودًا فرديًا في بدايتها، تحتاج فقط ارتياحًا متبادلًا… لكنني فعلتها.

أخذت الخطوات الأولى وقدمت العديد من أيام السبت، لكنه لم يبادلني… لا أحب الألعاب النفسية، لم أود أن أُجرب البُعد أو الثُقل أو التمارض، كما أن الأمر برمته لم يكن مُريحًا لي من الأساس، أستمر شعور عدم الراحة معي لعدة أيام حتى تيقنت وأخذت القرار، لم أسأل طبيبتي ولم أنتظر الآراء، حتى أصدقائي ممن شاركتهم معي وقتها، بقدر احترامي لهم إلا إنه لم يُحدث رأيهم تغيرًا، فهو لم يكن صديقي.

لم يكن صديقي منذ بداية الحكاية، كان شخصًا شعرت معه بالراحة لأتحدث كما لو كنت أكتب، أحتجت وجوده وأردت مشاركته، رأيت أن صداقته هي علاقة ستضيف لحياتي بعض النور، وبذلت مجهودًا لأحظى بها، وبقدرٍ، لازلت أشعر بكل هذه المشاعر الجميلة، لكنني لم أعد أجد الارتياح في المحاولة، أظن أن الصداقة يجب أن تكون أبسط وأكثر سلاسةً من هذه المناورات، ليس إثمًا أننا لم نصل لها، ليس خطأه أو خطأي، هو فقط لم يكن صديقي منذ البداية، والأرجح أنه لن يكون أبدًا.