أحمد وفدي الديب
أحمد وفدي الديب

د

عبارة نيتشة الفارقة!

هل من الممكن أن يُغير كتاب، نص، عبارة أو جملة حياتك أو يُحدث أثراً بالغاً في تكوين شخصيتك؟ أقول نعم، هذا ما حدث معي تماماً حين قرأت كتاب “The Antichrist – نقيض المسيح” لنيتشه.

وتحديداً تلك الفقرة الأَثيرة التي أحدث صداها دويّاً هائلاً بداخلي، جاءت كلحظة تنوير، أو صاعقة مباركة شقت أمامي درباً ينحو بي إلى حياة أفضل. لا داعي للمبالغة والإستطرادات المسرحية، ها هو ذا فريدريك نيتشه يقول في الفقرة المعنيّة:

ما هو الخير؟

إنه كل ما يُنمي الشعور بالقوة، إرادة القوة، والقدرة ذاتها داخل الإنسان.

ما هو الشر؟

إنه كل ما يتأتى عن الضعف.

ما هي السعادة؟

الشعور بأن القوة في تنامٍ، وأن المقاومة تُتَجاوز.

ليس الرضا، بل مزيداً من القوة؛ ليس السلام، ولا بأي طريقة، وإنما الحرب، لا الفضيلة، بل الكفاءة (البسالة في ترجمة أخرى) فضيلة بأسلوب عصر النهضة، خالية من “المورالين*”. المورالين Moraline مصطلح يجمع بين مقطعين Moral وتعني الأخلاق وine وهي النهاية التي يتضمنها المخدر كما هو حال الكوكاي(ين) والهروي(ين) وتصبح كلمة مورالين عندئذ بمعنى (الأخلاق المُخدّرة)!

عند قراءة تلك الفقرة المُزلزلة، توقفت عندها طويلاً، لن أبالغ إذا قلت أن الوقفة طالت لأيام، جردتها من سياقها، من كل ما قبلها وما بعدها، وتأملتها ملياً في عقلي. الخير في القوة، الشر في الضعف، السعادة في كل خطوة تُنمي القوة!

صراحة أرى أننا لا نختلف كثيراً عن رجال المسيحية الذين تهكم منهم نيتشه ووصفهم بالمُخدرين بالمورالين، فعلى مر قرون، نمى لدينا بشكل لا واعي تصور مشين –على نقيض ما يزعم نيتشه تماماً- إذ رأينا في الضعف فضيلة، الضعفاء تحبهم السماء ونحبهم، نغدقهم بالشفقة والتعاطف والهبات، نشبههم بالملائكة حين يحاكون قول المسيح “من ضربك على خدك فأعرض له الآخر”، وكذا رأينا النقيض في القوة، ما يشبه الرذيلة، وتلازمت في ذهننا بالبطش، التسلط والسيطرة.

نلحظ في بداية فيلم Batman vs Superman نرى بعيون بروس واين التي تراقب قوة سوبرمان بعجز، حقد وغضب، كحال الغالبية يرفض وجود الرجل الخارق ويعتبره كآفة مضرة يجب استئصالها من المجتمع والتخلص منها بسبب قوته المفرطة.

في الحقيقة وحين نفكر ملياً في معياريّ الخير/الشر بالنسبة إلى القوة/الضعف سنجد أن الشر لا يأتي إلا نتيجة للضعف، الضعف نقص، والنقص دائماً ما تتبعه مشاعر السخط، الكره، الغضب، والحقد، وتنجم عنه رغبات داخلية أو معلنة في إرتكاب أفعالاً شريرة.

وعلى العكس، نجد أن القوة كلما تعاظمت يتأتى من شعور الكمال الناجم عنها ترفع وتنزه عن الشر أو الإيذاء، صفاء وحباً للحياة. وكذلك تكمن السعادة في النزوع إلى القوة، تخطي العقبات وإكمال النقوصات وكل خطوة تقربنا من ذلك.

أعتبر نيتشه إرادة القوة أسمى الإرادات التي يمكن لبشر أن يمتلكها، وعلى إرادة القوة أن تكون موجهة للداخل لتحقيق أكبر قدر من الكمال، ويرى أن من يوجه طاقته نحو هدف خارجي إجتماعي/سياسي مثلاً هو الأكثر غباءً لأنه يُفني طاقته سدى في الإتجاه الخاطئ، السلطة أو السيطرة لا تعني أبداً القوة ولا من بعيد.

يعيبون ويسخرون من نيتشه لأنه فيلسوف القوة ومع ذلك قضى حياته كلها تقريباً مريضاً “ضعيفاً” ولكن من يفهم فلسفة نيتشه ويقرأ في سيرته، سيدرك قوته منقطعة النظير، والمتمثلة في كفاحه ومقاومته الفرديتان والمثيران للإعجاب..

هذا هو عدو نيتشه الذي يرفض السلام والتصالح معه ويعلن الحرب ضده؛ إنه الإرادة الهزيلة، الرضا بالضعف. يمكننا إعتبار يوتوبيا نيتشه عبارة عن مدينة من الأقوياء، تخلو من الضعف والنقص، ومع الأسف بعدما خلق نيتشه أنموذجا للإنسان الأعلى الـ Superman كرمز، أمل أو طموح للبشرية كلها وباعث للإرتقاء، رآى باتمان بحمق مثلنا أنه خطراً واجب التخلص منه، وتسبب بمقتله..

من حسن الحظ أنه أدرك خطؤه في الجزء التالي من الفيلم.