زمردة
زمردة

د

زمردة والذئبة الحمراء: مكتسباتي في عام الكورونا!

 في الحقيقة أنا من الأشخاص الذين لا يحتفلون برأس السنة، ولا أؤمن أن صباح الجمعة سيختلف كثيرًا عن مساء الخميس لمجرد أن التاريخ المكتوب على وريقات التقويم السنوي المعلق على حائط منزلي قد تغير، ولا أخفي عليكم، يعتريني شعور دائم في هذه الأجواء السنوية بأن عامًا بأكمله قد مضى من عمري ولا استطيع تعويضه، ومازلت كما أنا طفلة حائرة تخشى عالم البالغين بشدة، تختبئ وراء أكوام من الحواجز الاجتماعية التي صنعتها بنفسها، مازلت انتظر دعاء جدتي – رحمة الله عليها- ليرشدني للطريق كما كانت تفعل دومًا، ومازلت أشاهد هاري بوتر والعالم الجوراسي بنفس انبهار الطفولة البريء ولكن هذا العام كان استثنائيًا بالفعل، ولا يمكن اعتباره كالبقية، فهو تجربة حياتية فريدة من نوعها، تجربة مؤثرة ومؤلمة، خانقة وملهمة، الهدف منها الصمود بكل السبل المتاحة، ولأنه حقًا عامٌ مختلفٌ، فقررت مشاركتكم أشيائي الصغيرة التي اعتبرها مكسب حقيقي في زمن الكورونا بجانب البقاء حيًا إن جاز التعبير:

– صدق أو لا تصدق! أنا من الأشخاص الذين سعدوا كثيرًا بإجراءات الوقاية الصحية التي نادت بها كافة الهيئات والمنظمات الطبية لتطبيقها على المستوى الشخصي، وازدادت سعادتي حينما أصبحت هذه الإجراءات بمثابة تقليد صارم تفرضه العديد من المؤسسات والمراكز لدخولها، فببساطة لم أعد الكائن الفضائي الوحيد الذي ينتبه كثيرًا لمدى نظافة الأشياء من حوله، لم يعد هاجسي الدائم نحو المطهرات وغسيل الأيدي والطعام المنزلي أمرًا يخصني فقط لأنني شخص يرتاب أكثر من اللازم أو لأنني مهووسة بالنظافة والترتيب أكثر مما ينبغي، الغالبية من حولي يتبعون الآن نفس النهج الذي اتخذته منذ سنوات، ويدركون جيدًا أهميته للبقاء حيًا في مواجهة العدوى بالفيروسات والبكتريا التي تتحين أي ثغرة لغزو أجسادنا البشرية، لم يعد هناك من يلومني على محاذيري العديدة أو ينتقد غيابي المستمر عن أغلبية التجمعات البشرية والمهنية، لقد تفهموا وتقبلوا قواعدي الآن.

ولأن السباحة باتت حلمًا بعيدًا، فضلت العودة للمشي في الشوارع وعلى الأرصفة، أتحجج بشراء متطلبات المنزل وأرتدي نظارتي الشمسية وكمامتي وأتجول في المنطقة، ألاحظ كم التغييرات التي طرأت على المتاجر والوجوه، كيف تركت الأزمة أثارها على الجميع، فمنهم من خسر تجارته بينما هناك من ازدهرت، أتأمل أعين البشر المحيطين بي، كيف أصابهم الوباء بالحيرة والخوف، كيف انعكس على وجوه الأطفال الذين لازموا المنزل طويلًا حتى أصبح الذهاب للبقال بمثابة فسحة يومية، أرى الإرهاق الذي يكتنف وجوه الأمهات من إجراءات العزل المنزلي والوحدة الطويلة، وكيف افتقد الناس أوجه الحميمية والتجمعات الأسرية، كيف أصبحوا بائسين مثلي تمامًا!

ولكن هناك بالطبع جانب مشرق لجولاتي القصيرة، فمع الزيارات المتكررة للمتاجر القريبة مني؛ توطدت علاقاتي مع الباعة المحيطين بي كالبقال والخضري والصيدلية وخلافه، وبدأوا في اعتباري عميلة دائمة ومضمونة، وأتمتع بميزات عديدة، فمثلًا الخضري يقوم بتخفيض الأسعار من تلقاء نفسه لأنه يعلم جيدًا أنني لا أتقن الفصال كالأخريات، لا أعرف إن كان هذا من باب الشفقة لأنني لست ماهرة كبقية النسوة أم لأنه يرفع سعر الفاكهة تحسبًا للفصال!

– خضعت للعلاج البيولوجي بعدما فشلت العقاقير التقليدية في إحداث أي أثر للسيطرة على الهجمات المتتالية للمرض، وهو لمن لا يعلم علاج بديل للأدوية المعروفة في حال عدم استجابة الجسم، وقد يُوصف بمفرده أو بالتزامن مع أدوية تثبيط المناعة والكورتيزون حسب حالة المريض، ويمتلك آلية مختلفة كليًا لمعالجة المرض وتخفيف أوجاع المفاصل والعضلات، وهو بالمناسبة علاج مكلف للغاية وقد يصعب الاستمرار عليه مطولًا لارتفاع ثمنه، على أية حال..لقد بدأ جسدي أخيرًا في التحسن والاستجابة ببطء للدواء، وبعد مرور خمسة أشهر يمكنني القول أنه الدواء الوحيد الذي استطاع أن يقهر المعدل المرتفع لسرعة الترسيب لدي الذي استقر عند رقم 100 لمدة سنوات، ليصبح النصف الآن وهو إنجاز ضخم أحمد الله عليه وأتمنى استمراره.

– حاولت قدر المستطاع نقل خبرتي المتواضعة في مجال تطوير المهارات اللغوية للأطفال ومساعدة الدائرة المقربة مني للأمهات اللاتي يعانين من نفس المشكلة مع أبناءهن، فابنتي الصغيرة تعاني من تأخر لغوي يسبق الجائحة، وكنا نتبع برنامج محدد مع أخصائية التخاطب ولكن بعد إجراءات الإغلاق والعزل المنزلي، باتت المسؤولية الكلية على عاتقي في إحداث أي تطور ملحوظ، فقمت بالالتحاق بدورة عن التربية الإيجابية للطفل، وقرأت ملخصات عن عقل الطفل وكيف يفكر في محاولة مني لتحقيق التطور اللغوي المطلوب كي تستطيع ابنتي الالتحاق بالمدرسة كأقرانها، فالقبول في مرحلة رياض الأطفال أصبح خطوة صعبة للغاية ومجهدة للطفل وعائلته في مصر، حيث يخضع الطفل لاختبار مصغر لتقييم مهاراته اللغوية بالعربية والإنجليزية التي من المفترض أنه سيدرسها لاحقًا في المدرسة!

– دعوني أقر لكم باعتراف مخزٍ، عباداتي الدينية لم تكن الأفضل خلال السنتين الأخيرتين، بل شهدت منحنى متغير ما بين ارتفاع وهبوط، مررت أيضًا بفترة طويلة من الاكتئاب خلفت العديد من الأسئلة الوجودية التي قد يراها البعض بمثابة تعدي فكري على القدر والمحتوم، نوعية من الأسئلة مثل: لماذا أنا مريضة؟ لماذا تم ابتلائي على الأخص؟ ترى هل يحبني الله أم يعاقبني؟ هل سيتم محاسبتي كالبقية الذين يتمتعون بصحة وافرة؟ هل سترث طفلتي مرضي؟ هل اكتفي بابنتي ولا أنجب مجددًا إذا كان هناك احتمالية بانتقال الأمراض وراثيًا؟

رحلة طويلة ومهلكة من الأسئلة اللامتناهية، التي دفعتني للبحث عن سبيل الرضا بالمكتوب وفقًا لمشيئة الله سبحانه وتعالى، وفي طريق العودة كان لابد من أمرٍ جديدٍ يزلزل أفكاري المحمومة؛ عثرت عليه بفضل الاتجاه العالمي الحالي نحو استخدام التكنولوجيا في التعلم عن بعد، حيث تحولت معظم الدورات التدريبية من واقعها الفعلي للواقع الافتراضي، والتحقت بالفعل بدورة لتعلم التجويد مع الحفظ والتفسير المبسط للقرآن الكريم من منزلي، وهنا بدأ الثلج في الذوبان، لتتدفق معاني افتقدتها طويًلًا كالطمأنينة والرضا والتسامح، مازلت في مستوى المبتدئات ولكني عازمة على إتقان التجويد بشكلٍ خاص، وبرغم كوني محبة للقراءة واللغة العربية؛ كنت أجد دائمًا صعوبة في قراءة القرآن الكريم بطريقة صحيحة، ولطالما كان التجويد ضمن أهدافي التي رغبت في تحقيقها يومًا ما، خاصة بعدما استعدت صوتي مجددًا بعد الخضوع لعملية إزالة العقيدات على أحبالي الصوتية (تجدون تفاصيل الحكاية هنا).

– لقد دأبت على التهام الروايات منذ الصغر سواء كانت روايات جيب أو كبيرة وسميكة، كنت أقرأ في أي مكان وفي أغلب الأوقات، حتى أنني انتهيت من قراءة رواية السراب لنجيب محفوظ في أوقات الراحة بين الامتحانات في الثانوية العامة (بعبع الطالب المصري) ولكني أعاني منذ عدة أعوام من فتور في القراءة، بمعنى أنني قد فقدت الرغبة في قراءة أي كتاب بشكل عام، ما إن أقرأ صفحتين حتى أفقد شغفي وأترك الكتاب جانبًا ليكسوه الغبار لاحقًا، ليس لدي تفسير لهذه الحالة، وكأن عقلي قد أغلق تمامًا واستسلم للثقافة البصرية مستمتعًا بدوره كمتلقي لا يبذل أي مجهود.

هذا العام ومع إجراءات الغلق والعزل المنزلي.. اشتريت عدة روايات حديثة لأبرز الكتاب الذي يتصدرون المشهد الأدبي المصري في الوقت الحالي، ومنحت نفسي فرصة جديدة للعودة إلى هوايتي المهجورة، على مدار العام استطعت الانتهاء من قراءة البعض منهم حتى النهاية، وهو شيء عجزت عن القيام به في السنوات الأخيرة وأعتبره خطوة إيجابية لإنعاش هذا العزوف الطويل.

عامٌ بأكمله قد مر على ظهور كورونا في حياتنا، رحل العام ولكن الفيروس الشرس يأبى الرحيل، ويبدو أنه عازم على البقاء فترة أطول مما كنا نعتقد، كل ما نتطلع إليه هو مزيد من الصمود النفسي والجسماني، ونسأل الله أن ينجينا- نحن وأهالينا وأحباءنا- من هذا الوباء أصحاء معافين ويمنح الصبر والسلوان لكل من فقد عزيز أو صديق، دمتم سالمين.