مدونات أراجيك
مدونات أراجيك

د

أبي لم يتخلى عني!

تدوينة: ايلاريا لطيف

كل ما أدركهُ الآن أنني لا أريد أن أرى ما تفعلون ولا أسمع ما تقولون. كل ما يحدث غير حقيقي. كل هذا الازدحام لا يُعني إلا كابوس بشع سأستيقظ منه. نعم، سأفتح عيني الآن ولا أرى أحد سوى أبي، سأصرخ بشدة في وجوههم: «أبي لم يتخلى عني!».
وبالفعل رأيت، رأيتهم يحملونه إلى مكانه الجديد والآخرون يصرخون في وجهي أنّه رحل ولكن بعبارات أحن، كيلا أنهار وأسقط أمامهم، كي اتحمّل تلك الفاجعة.

هم يقولون أنّه ذهب، أما داخلي يقول أنّه تخلى عني حقاً. تركني دون أن يُعلمني معنى الفقد. درّبني كثيراً على فقد الأشياء لكنه لم يُدربني قط على فقده. علمني أنّ أحبه بشدة ولم يُعلمني أن اتحمّل وجع هذا الحب حين يرحل… علمني بالحكمة أشياء كثيرة وأن عليّ أن أحكم بعقلي وأشعر بقلبي بمن هم حولي كي أكون الحنونة العاقلة. عشت ثماني سنواتٍ غريبة عن كل مَن حولي لا أنتظر شيئاً سوى إجابة لما يراودني. متى قلبي يُشفى مِن كل هذا الوجع؟ متى عقلي يُدرك أنه رحل وأنه عليَ أن استمر بدونه؟
أدركَ بعض مَن كانوا حولي أنني أحياناً أتكلم مع ذاتي أو أوجه كلاماً لآخر غير موجود. أدركوا أنني يجب أن أذهب إلى أخصائي نفسي. لا ألومهم ولكنني مُدركة تماماً أنّه لم يعد موجوداً بكيانه ولا أستطيع أن أراه، إلا أن هذا ما يقوله العقل. إذ يوجد ما هو أهم وأخطر وتأثيره أكبر مِن العقل وأفكاره ونظرياته… يوجد الإحساس! الإحساس الذي لا يقدر عليه الموت بجبروته.

حينها أردت أن اصرخ لهم بوجع شديد: «إنني لست مريضة ولكنني إنسان وحيد!». أعلم مدى خوفهم الشديد وأنا أيضاً شديدة الخوف مما هو آتٍ ولا أعرف كيف مضت كل هذه السنوات بدونه.
بعد مرور الكثير والكثير، رأيت كل مَن حولي ينهار أشخاصاً وأشياء، وحتى جسدي عن غير قصد، لكنهم فعلوا كل هذا في آن واحد. حينها أدركت أنه يجب عليّ الاستيقاظ قبل الضرر الذي لا يلحقه إصلاح.

توصلت لأنه مِن غير الممكن قدرتي على الاستمرار، وأن بداخلي يرفض هذا حقاً. ولكن لماذا في كل هذه السنوات لم أصل لفكرة الموت؟ لماذا لم أرحل عن هذه الحياة طالما لم أعد أحبها ولا أريد العيش فيها؟ هل حقاً ما أريده هو الموت؟ لم أستطع الإجابة، لكنني أدركت أنني أردت الحياة طالما لم أقدر على اتخاذ قرار الموت. إلا أنّ هذا الذي أعيشه لم يكن سوى موتٌ بطيء، ليس لي فقط بل لمَن حولي مِن الأحبّة.
عشت الكثير مِن الصراعات بداخلي ومع مَن حولي وسقطت كثيراً واتخذت قرارات فشلت فيها ومنها مَن نجح، لكن بعد كل هذه الصراعات والخيبات تصالحت أخيراً مع نفسي وفعلت ما كان أبي يزرعه داخلي، بأن أكون حنونة وأن نفسي لها الأولوية بأن أحن إليها وأحبها.
الحياة ما هي سوى مشوار، سواءً كان طويلاً أو قصيراً فلا بد له أن ينتهي. إلا أني أريد أن أنهيه دون خسائر، لا أريد انهاءه تاركةً خلفي شخصيتي السابقة بحالتي عندما ذهب أبي. أبي لم يتخلى عني ولن يتخلى أبداً. سأشعر به وسأتكلم عنه، سأجعله حيّاً طالما بقيت حيّة. سأجعل مَن يراني يحبني ويحب أني وُجدت في هذه الحياة فيدعي له بالرحمة والخير. أعرف أنه مرَّ الكثير على إدراك هذا، ليس أيام فقط ولكن سنوات عدّة.. إلا أني لن استسلم للقليل أو الكثير الآتي، ولن أتركه يمرُ هباءً.

أبي دائم الوجود جانبي ولم ولن يتخلى عني!