فادي عمروش
فادي عمروش

د

انطفاء جيل الألفية

يعيش إنسان القرن الحالي محاطاً برفاهيات وكماليات كانت محصورة قبل عقود عدة على الطبقة النبيلة أو الأمراء والملوك أو لم يكن يفكر حتى بوجودها ولا أبالغ، دافئاً شتاءً، بارداً صيفاً، في أمان مادي وغذائي وترف بالنسبة لإنسان القرن الماضي، لكنه رغم هذا غير سعيد!

يقول ماسلو أن الإنسان بعد تلبية حاجاته الأساسية والشعور بالأمن والحرية يبدأ رحلته في البحث عن ذاته وإثباتها، ليتفاجأ إنسان ما بعد الحداثة أنه فقد سعادته فداءً للحضارة ومكمّلاتها، مما أغرقه بالمزيد والمزيد من الاستهلاك والتخبط في حياته المالية والمهنية والعاطفية دون أن يجد نفسه، دون أن يجد مكمّلاً لروحه.

يتحدث سيمون سينك المحاضر التحفيزي والمستشار التنظيمي في فيديو لطيف عن هذه المعضلة أو ما سماه بأزمة جيل الألفية (مواليد الثمانينات وما بعدها)، ونجح في توصيف المشكلة الحقيقية التي أدت بجيل كامل لأن يصبح شديد المراس صعب الانقياد، بعيد المنال شديد الطموح دون حراك، متهم برغبة التملك والحصول على كل شيء، تطغى عليه صفات النرجسية والأنانية وعدم التركيز والكسل.

لا يلقي سيمون سينك الذنب على أفراد هذا الجيل، بل يبرر تصرفهم في الظروف التي أوصلتهم لهذه المرحلة من الفتور والخدر، في النشء الذي أدى بهم إلى فقد السعادة والمعنى في أي شيء، لا تتحرك داخله أي مشاعر انتماء أو حماس نحو عمله أو حياته، محتاج لعلة وسبب لحياته وعمله يعينانه على متابعة حياته الاجتماعية والمهنية، أو بالأحرى يحتاج إلى “لماذا” لإيجاد إجابة تشفي لهفة الطموح فيه.

أربع عوامل أفرغت حياتنا من معانيها

 ينطلق سيمون في تحليله لما يحدث مع جيل الألفية من عوامل أربعة:

  • العائلة:

تؤثر العائلة بشكل كبير في أفكار الأطفال والمراهقين، فتصوغ التفاصيل الصغيرة وتصرفات من حولنا تفكيرنا ونظرتنا لذاتنا وشعورنا بمن حولنا وتقديرنا لما نفعل، ويعيب سيمون خلال سرده فكرة التميز للجميع التي طغت على هذا الجيل في مرحلة طفولتهم فأصبح الوسام والاستحقاق أو الجائزة التي تمنح للتفوق غاية بعدما كان التفوق هو الغاية، حتى أن بعض المدلّلين لأطفالهم ضغطوا على مدرسي أطفالهم لمكافئتهم على لا شيء، فحصل من لا يستحق على ما لا يستحق، وشعر جيل الألفية أنهم مميزون طوال الوقت والأضواء مسلطة عليهم وبإمكانهم الحصول على أي شيء يرغبون في الحياة دون أدنى تعب.

يتضخم بالون المصيبة أكثر وأكثر حتى يتخرج هؤلاء الأطفال من المدرسة ويحاولون الحصول على عمل فينفجر البالون في وجههم ويكتشفون أنهم ليسوا مميزين، وتتحطم الصورة الوهمية التي غشهم بها أهليهم ظناً أنهم يمنحون أطفالهم سعادة غير مقدرين لحجم الأثر السلبي في شخصياتهم.

  • نفاذ الصبر:

يؤكد سيمون على أهمية الوقت في تحقيق أي إنجاز، فلا يمكن إغفال أن بناء العلاقات المهنية يتطلب وقتاً طويلاً، يواجه جيل الألفية مشكلة نفاذ الصبر والرغبة بحدوث كل شيء مباشرة، إنّ الرضا الوظيفي والعلاقات القوية هي أمور بطيئة معقدة تدخل فيها الكثير من المتغيرات التي تستهلك الوقت بشكل غير مريح.

يحتاج جيل الألفية أن يتعلم الصبر على قضاء حوائجه والصبر على الارتقاء، فلا يهم إن كان تسلقك للجبل بطيئاً أو سريعاً ! المهم أن تصل، كما يحتاج لتعلم مهارات الحياة ومعانيها ومصادر الحب والسعادة والثقة بالنفس واستشعار الفرح في التفاصيل الصغيرة لا  انتظار تحقق الإنجازات الكبيرة، فكلُّ هذه الأشياء تستغرق وقتاً للوصول إليها، نعم يُمكنك أحياناً  تَسريع أجزاء منها ولكن الرحلة عموماً شاقة وطويلة وصعبة.

يرى سيمون أن المطاف قد ينتهي في شباب هذا الجيل في حلين أحلاهما مرُّ، فإما الانتحار والهرب من مشاق الحياة وصعابها، أو العيش دون هدف ودون دافع لتتشابه الأيام وتتكرر نفسها.

  • التقنية:

يعقد عالم السوشال ميديا الحياة فوق تعقيدها، بسبب المثالية التي يراها جيل التواصل الاجتماعي على الفيسبوك والانستغرام حيث كل شيء وردي ومثالي للغاية، والكل يعرض الجانب المشرق من حياته حتى لو كان في أقصى درجات السوداوية.

نجح القائمون على منصات التواصل هذه في تجنيد دوائر المكافأة في أدمغتنا لخدمة الإشعارات، حتى بتنا متلهفين لأي إشعار من هذه المنصات كرمى لعيون الدوبامين في نواقلنا العصبية، وتسهم تدفقات الدوبامين هذه في ترسيخ إدماننا للتواصل الاجتماعي أكثر وأكثر مع كل إعجاب وتعليق يداعب النرجسية فينا.

ثورة هواتفنا علينا نابعة منا، فإن فهمنا واستفدنا منها كسبنا الكثير وإن استسلمنا أمامها وخضعنا لها خسرنا كل شيء، يجب أن ندرك بأن ما بين أيدينا ما هو إلا عبارة عن آلة الكترونية من صنع البشر وأن عقلنا البشري يجب أن يسخرها لخدمته لا أن يُسخر لخدمتها، حتى لا نكون عبيداً لأصنام القرن الواحد والعشرين.

هناك العديد من الحلول التي تساعد على الإقلاع عن إدمان الهواتف، وهذه الحلول تتطور باستمرار كتطور درجات الإدمان عليها، لكن المخيف في مخدر الانترنت والتكنولوجيا هو الجديد الدائم الذي يسيطر على الأشخاص ويبقيهم مخدرين مشدوهين لكل جديد، لذلك يجب الإيمان بالانتفاضة والوعي بما نحن فيه لنعلم كيف نتخلص منه ونضبطه وذلك عن طريق الالتزام والعمل لنحيا بحق.

  • البيئة:

ينتهي جيل الألفية حسب سيمن في أحضان الشركات ليتحول الإنسان لمرحلة أقسى  تعد امتداداً للمراحل السابقة، فينحصر نجاحك بالأرقام، وإنجازك وتقدمك بالأرقام دون تقدير لشخصك وذاتك، دون تقدير لحجم الأذى النفسي الذي تعرضت له من أساليب التربية الفاشلة حتى طرق الإدمان التكنولوجي المختلفة، دون مساعدة وتقدير حقيقي لحجم ما تعانيه في سبيل بذل ما تقدمه الآن.

دورك كقائد

يصف سيمون سينك في كتابه “ابدأ بلماذا” القادة الحقيقيين فيقول:

هناك قادة يقودون المنصب فقط، وهناك قادة يقودون الناس فعلاً بمنصب أو بدونه

إن القادة الحقيقيون هم الذين ينجحون في إدارة من حولهم وتحفيزهم بشكل صحيح، الصادقين مع من حولهم أصحاب الأفق الواضح الواعد الذين يستطيعون التواصل مع العاملين في دائرتهم بشكل كامل ليبنون معهم علاقة مودة وعمل، أولئك الذين يستطيعون إيصال أفكارهم وأهدافهم لتكون في قلوبهم قبل عقولهم، ليقتنع فريقهم وموظفيهم أن مصلحتهم في تحقيق أهداف الشركة التي يعملون بها وأن نجاح الواحد منهم يعني نجاحهم جميعاً، فهدفهم واحد ونجاحهم  ودافعهم واحد وهو حب الفائدة للجميع حب التعلم وتحقيق النجاح في العمل لهم ولشركتهم والسعي للاكتشافات والابتكارات وتطويرها.

يرى سيمون أن القائد الحقيقي لا يحقق ذاته في الوصول لربح مادي ونجاح مالي فقط، فالمال والسلطة نتيجة هامشية مضمونة لمن مثل هؤلاء ففضاء تفكيرهم تجاوز الحد المالي ووصل بهم للابتكار واكتساب الخبرة التي توجد في كل تجربة، فيطمعون في اكتساب المزيد من العلاقات الاجتماعية السليمة التي تبنى في محيط يسوده التشاركية الحقيقية، ويتصف القائد الحقيقي حسب سيمون بالجدية والالتزام والرغبة المستمرة في التعلم وتطوير عقليته وتفكيره، ليضع تغيير العالم في مرمى عينيه عند التخطيط لأي هدف بعيد المدى.

الدائرة الذهبية

وصف سيمون إمكانية فهم ما يجري حقاً باتباع تمرين يسمى “الدائرة الذهبية” والتي طرحها في كتابه “إبدأ بلماذا“، وهي بالفعل ذهبية في تطوير الذات والشركات، وتحقيق المبيعات

يتم ذلك ببساطة من خلال طرح ثلاثة أسئلة:

  1. لماذا؟ وهو لب الموضوع، في فهم سبب وضع هذا الهدف بالتحديد والعوامل التي دفعتك له ثم تقييمها بعقلانية.
  2. كيف؟ ثم حدد طريق الوصول وخطة الطريق والأدوات التي تحتاجها لبلوغ الهدف.
  3. ماذا؟ أي حدد هدفك وما تصبو للوصول إليه بدقة.

يوافق سيمون عقلية أغلب المديرين في أهمية الخطاب الحماسي والمكافأة لدفع الموظفين للجد في العمل لكن يشير إلى عدم استمرارية توقدهم وخبوت شرارة حماسهم مع تباعد الأجل، ويرى أن ما يدفع الناس للاستمرار في العمل بحب وعطاء، ويوصلهم للشغف والإبداع هو اشتراكهم بالغاية نفسها أو بالأحرى إيجاد إجابة السؤال المعهود وهو “لماذا هم يعملون”، وبذلك يبنى الولاء من حاجة الإنسان الضرورية للانتماء إلى مكان يشعر فيه بالسعادة والأمان، عندما يشعر أنه محاط بمن يشاركوه قيمه ومعتقداته التي يبني عليها أهدافه.

معرفة “لماذا” لا تضمن النجاح بالطبع لكنها تضمن الاستمرارية في الطريق للنجاح تضمن الاستمرار بحماس دائم، وهذا بعكس اعتمادنا على “ماذا” التي تبقينا مقيدين بها مدى الحياة نعمل لهدف مادي فقط بلا أي معنى أو هدف حقيقي فلا نحيا بما نعمل ولا نشعر به.

يرى سيمون أنه من المهم جدا أن يتم مزج المواصفات (ماذا) والوسائل (كيف) مع الغاية (لماذا) والتأكد من انسجامهم معاً لخلق بيئة عمل سليمة وفعالة.

يكون الإنجاز عندما تصل الى هدفك ولكن حتى الوصول الى الهدف يرافقه غاية سامية تسكن هواجسنا وتلهمنا وتأثر في سلوكنا تأثيراً حقيقياً بفضل الدافع القوي الذي تتضمنه، فمن يلهم الأخرين ويحقق أهدافه هو الذي لا يتخلى عن غايته الداخلية وهو من يمكن إعطاءه لقب القائد العظيم.

إن الدور الحقيقي للقائد يكمن في خلق بيئة مناسبة تؤدي بمن يعيش فيها لابتكار أفكار عظيمة

نعتقد أن حياتنا تبدأ عندما نحدد أهدافنا ولكن في الحقيقة حياتنا تبدأ عندما نحدد نحن الوقت لذلك، عندما نحدد غايتنا الحقيقية ونكون قادرين على العيش فيها، والاستمتاع بكافة تفاصيلها شاعرين بمتعة الطريق لا بمتعة النتيجة فقط.

نتخلص من انطفاء الألفية متى وجدنا شعلة الحياة في أصغر تفاصيلها، متى تخلصنا من إدمان الهاتف الذكي، متى قدّرنا مستوانا حق تقديره، متى كنا قادة حقيقين لأنفسنا قبل فريقنا، متى عدنا لبشريتنا الأولى، تلك البشرية التي تقدح فينا فرحاً لزهرة، بشرية نرضى فيها الملل وعيش التفاصيل على سرعة الحياة التي نعيشها.