منة شتا
منة شتا

د

خان… رسالة حب إلى مخرج كان صوتي، وكنت كل بطلات أفلامه!


موعد على العشاء… موعدي مع سيد التفاصيل

الشغف يسلم إلى شغف، كنت شغوفة بسعاد حسني حين قررت أن أشاهد موعد على العشاء، وأسرتني سيمفونية العذوبة والرقة والشجن.

اكتشفت أنه يحكي عني، يعرفني، وأنني بشكل ما نوال.

قد لا تتشابه ظروف حياتينا، لكنها نفس الروح التي تتوقف أمام لوحة تصور بنتا صغيرة تمضي مع أبيها إلى المجهول، فيجرفها حنين غامض وترى نفسها في اللوحة. هي التي تغادر الأماكن المختنقة بوجود الناس المزيفين لأنها لا تستطيع التنفس. تقرر أن تمتلك حقها في أن تحب وتحيا في النور لا أن تعيش حياتين، زوجة في العلن وخائنة كارهة لنفسها في الظلام. وحين تفعل وتأخذ ما رأت أنه حقها ينتقم منها طليقها مدعوما بنفوذه وبسلطة مجتمع كامل غاشم. يقتل حبيبها ويدمر حياتها. لكن مهلاً، فنوال ليست ضعيفة تماما كما يبدو عليها. هي كأبطال خان تمتلك قوة كامنة، سلاحا سريا تدافع به عن أحلامها ضد المجتمع. تقتل طليقها الذي دمر عمرها كله حتى لو كان الثمن أن تموت معه.

التفاصيل هي سر عبقرية محمد خان، هذه النعومة. لا حاجة للصراخ أو العويل، فقط اثنان يتناولان عشاءهما الاخير بينما الكاميرا تبتعد ونسمع صوت البيانو الحزين يحكي أي مأساة كانت هذه!

لا حاجة حتى للفرح الزاعق، للمباشرة والتلقين.. يطرق الحب باب شقة نوال في هيئة شكري حين جاء ليعزيها في وفاة أمها، تقوم لتفتح له باب شقتها المظلمة فيسقط النور على وجهها.

أهدى خان هذا الفيلم إلى نوال، إلى المرأة التي قرأ خبر انتحارها في جريدة وتخيل قصتها. أليست نوال هي كثيرات جدا اختنقوا بالصمت؟ أليس لطيفا جدا منه أن يمنحها الصوت لتقول رسالة أخيرة؟ لأجل أشياء كهذه وقعت في حب خان!

كان لابد أن أكرر السحر وأبحث عن مزيد…

شاهدت “موعد على العشاء” خمس مرات أو أكثر، ثم كان لابد أن أكرر السحر وأبحث عن مزيد. كان هذا موعدي مع “زوجة رجل مهم”، كالعادة مجرم فن بالمعنى الساحر لكلمة مجرم، يأسرني الإهداء: إلى زمن عبد الحليم حافظ”

لأجد نفسي بعد ذلك أحدق في العينين الشغوفتين لفتاة جالسة بثياب المدرسة في السينما تختلس ساعة من الحلم، أسمع عبد الحليم يغني “أنا لك على طول” وتكاد تدمع عيني. كانت البطلة في هذا الفيلم توثق ذكرياتها على شرائط عبد الحليم، الشرائط التي مزقها ذات يوم الرجل المهم كما فعل بسنوات عمرها ورومانسية صباها، كما فعل عصر كامل داس على كل أحلامها بقدميه. تفاصيل خاصة جدا لا تجدها إلا عند خان وحده، تفاصيل لها طعم وروح مختلفة. اهتمامه بشريط الصوت الذي يكون في خلفية أفلامه دائما. إذاعة مونت كارلو في فيلم “مشوار عمر”. عبدالحليم في “زوجة رجل مهم”. سعاد حسني في ” فتاة المصنع”. ليلى مراد في “شقة مصر الجديدة”. لأجل هذه البصمة الشخصية المتفردة أحببت خان!

شاعر راقٍ لا يحتاج للكثير حتى يقول ما يريد قوله

حرصت بعد ذلك على مشاهدة كل أفلامه، أصبح مخرجي المفضل. فيلسوف البساطة. توقفت عند بعض الأفلام أكثر من غيرها. لكني أذكر من كل فيلم تفصيلة صغيرة أسرتني أكثر من غيرها؛ غرامه بالطبيعة المصرية في خرج و لم يعد، الطريق الزراعي والحقول.

 خان العاشق للجمال المصري الحق، حتى في اختياراته لوجوه أبطال أفلامه. أنا أيضا مصرية اللون والملامح. ولأجل هذه الذائقة، هذا السر الصغير المشترك، أتذكر أني أحب خان وأبتسم.

أعجبني في “أحلام هند وكاميليا” تصويره لأحلام البسطاء وحياتهم، لا بالطريقة التي تغربهم عن المجتمع ككائنات عجائبية معروضة في معرض ومبالغة في مظاهر البؤس لاستدرار الدموع، كما يحدث في بعض الأفلام والكتب. القصة إنسانية وواقعية مثل مخرجها، لهند وكاميليا سعادات صغيرة وصداقة تحاربان بها الأيام ولهما أحلامهما أيضا.

في “طائر على الطريق” انتبهت إلى أن هذا الرجل شاعر سينمائي حقا. فحين تنضج العلاقة بين فارس وفوزية حتى تؤدي لحمل غير مرغوب، تصور لنا الكاميرا برتقالة في الحديقة -حيث وقفت فوزية- تسقط من على الشجرة مثقلة بنضوجها. شاعر راقٍ لا يحتاج للكثير حتى يقول ما يريد قوله.

أبطال خان: عذوبة الحلم… والقوة الخفية للروح

أدركت تركيبة أبطال خان. إنهم الحالمون البسطاء، لهم حربهم الخاصة ضد المجتمع والواقع البشع. كل ما يريدونه هو الحفاظ على إنسانيتهم، على حقهم في الحلم.

 هم أقوياء أكثر مما يبدو عليهم. قوة كامنة في الروح، قوة كالتي دفعت نجوى القادمة من الصعيد إلى قاهرة غريبة ومخيفة بالنسبة لها بحثا عن أبلة تهاني. في واحد من أقرب أفلام خان لقلبي “في شقة مصر الجديدة”.

تصبح أبلة تهاني بحكاياتها عن الحب، رمزا للحب ذاته. كائن أسطوري مختفي، ويقال أنه مات. لكن نجوى لا زالت تتلقى رسائل منها، أشبه بإشارات القدر. إهداء لأغنيتها المفضلة على الراديو. شرارة الحب التي تولد بينها وبين يحيى وتؤكد صدق حكايات أبلة تهاني. ولأن البهجة تبحث عنا كما نبحث عنها، فقط المخلصون الصادقون في بحثهم عن الحب، يبحث الحب عنهم أيضا ويجدهم. أبلة تهاني موجودة والحب موجود. كما يصيح يوسف داوود ببهجة: She Exists

يمضي القطار بنجوى ويحيى يلوح لها ويعيد عليها رقم هاتفه. يرقص قلبي بالأمل وهي تحفظ الأرقام عن ظهر قلب. ينتهي الفيلم و لا تنتهي الحكاية. يتركها لنكملها نحن.

لأنه يحكي عن بنات مثل نجوى، أحب خان.

شكرًا لأنك كنت صديقي دون أن تعرف ذلك.

في بداية فيلم “في شقة مصر الجديدة” تقع عيني على هذه العبارة: شكرًا لساعي البريد. كل مرة أراها أود أن أهديها لخان.

بطلة واحدة أيضًا أحب أن أشكرها هي هيام “فتاة المصنع”، أكثر بطلات خان قوة وإيجابية. ترقص في حفل زفاف حبيبها لا مبالية بالوجع. تتحرر من ضغوط حياتها خفيفة رغم أنف الظروف. تنظر للكاميرا بعين قوية. ينتهي الفيلم ويسرا الهواري تغني بصوت مرح:

“بأبتسم من كتر حبي للعالم بأبتسم من كتر خوف وعيت عليه…

 وعينيا مفتوحة على الألم كأنها وجع يبص ويبتسم.”

إلى خان، شكرا من القلب لأنك كنت صديقي دون أن تعرف ذلك. كنت بسيطا إلى درجة مبهرة.