عبدالرحمن عرفة
عبدالرحمن عرفة

د

جوردان بيترسون.. رجل السلطعونات

مُعظم «مناظرات» جوردان بيترسون مع التحفظ على كلمة مناظرات لأنها ليست بالمعنى التشجيعي «التصفيقي» المستقر في أذهاننا كإسقاط لعالم كرة القدم على عالم الفكر، وأنك يجب أن تكون بصف أحدهم وتشتم على الدوام الآخرين المُناهضين..

لم تكن مناظرات صدامية، بل حوار نخب فكرية تحاول التوضيح والبيان.

خصوصاً تلك التي جرت مع سلافوي جيجيك فيلسوف الكاريزما، ومِن قبلها مع سام هاريس. والتي تبيّن فيها جميعاً أن نقاط الخلاف غالباً ما تكون قليلة وغير واضحة، وأنّ الأمر برمته يكمن في اختلاف زوايا الرؤية لكل طرف من القضية.

فمن الواضح أنّ الخلفية النفسية تحتّم على بيترسون النظر دائماً من المُنطلق النفسي قبل كل شيء.. فدراسته في ألبيرتا كندا، ثمّ عمله في هارفرد أمريكا أستاذًا لطب النفس، جعلَ من مُعالجته النفسية للقضايا شأناً أولاً سابقاً لكل المعالجات الأخرى التي قد يراها مَن حوله.

لأجل هذا تراه دائماً يُولي المسؤولية الشخصية للفرد الحق في كل شيء. ويجعلها السلطعون الأوّل الواجب تفعيله. فيكرر عبارته الشهيرة في كل مناسبة مواتية: «رتّب غرفتك» أولاً.. بعدها حاول أن ترتب العالم!

أي أبدأ من نفسك قبل كل شيء. فلو بدأ كل إنسان بنفسه لترتب العالم بعدها. فالفرد هو أولًا هنا.

السلطعون الثاني الواضح للغاية عند بيترسون هو سلطعون الغاية التي تفوق الوسيلة أهميةً لا سيما فيما يتعلق بموضوع الدين والإله والحياة.. إذ أنّه ومن خلال كثير من اللقاءات لا سيما تلك التي جمعته بسام هاريس، يُدقق على أنّ الإله غير مهم بقدر أهمية «قيمة الإله» إن صح التعبير.

وعندما سُئل بشكل مُباشر عن وجود الإله وعدمه. قال غير مهم، المهم أني أتصرف وكأنه موجود. فالوسيلة الإلهية على اختلاف قوالبها سواءً الدينية أو الفلسفية لا يوليها أهمية بقدر أهمية ما يترتب عن هذه الغاية، خصوصاً في موضوع الأخلاق وتمثيلات مهمة أخرى كالنعيم والجحيم التي استفاض في شرحها مع سام هاريس.

سلطعون آخر لبيترسون هو الذي يجمع ثنائية السعادة والألم. يلخص بيترسون موضوع السعادة على أنه استكمال لاستلام المسؤولية الفردية، فيصبح وجود المعنى مُرتبطاً بما تفعله أنت لا بما يأتيك جاهزاً.

دون أن ينفي وجود عقبات بين الفينة والأخرى، لاسيما عندما سأل في أحد المحاورات عن لماذا ينشد الناس السعادة؟ فكان جوابه أنّ الناس لا ينشدون السعادة، بل ينشدون حياة فيها من المعاني ما يُبرر الآلام.

هناك ألم في الدراسة؟ نعم، لكن عندما يكون هناك تبرير وهو الحصول على الشهادة والعمل لا بد من السعادة. هناك ألم في التمارين العضلية؟ نعم. لكن عندما يكون هذا تبرير للحفاظ على جسد صحي لا بد من وجود سعادة. هناك ألم الزواج وتقيد الحرية لدى البعض؟ نعم. لكن عندما تحصد الاستقرار النفسي والجسدي من وراءه لا بد من وجود سعادة.

سلطعون السعادة لدى بيترسون هو سلطعون التبرير والمسؤولية الفردية التي تتحملها أنت بنفسك. وليس سلطعون نفي المعنى لإسقاط ثقل حمل المسؤولية عن كاهلك! فلا تكون مُعالجتك للموضوع معالجة إدراكية صحيحة بقدر كونها معالجة انهزامية تُريد التخلص من عبء تحمّل المعنى وما يترتب عليه من مسؤوليات مُرتبطة.

يتخذ بيترسون نفس الموقف السابق تجاه العدمية أيضاً. موقف المسؤولية الفردية في ترتيب الغرفة. وهو هنا يسلك منهج ديني واضح، إذ يدقق في جُل ما يقوله على أهمية القيم اليهومسيحية في تكوين ملامح طريق نحو الأمام. وهي نقطة مهمة اشترك مع هاريس بنقاشها في محاورة فانكوفر. فهاريس تارةً يقول بالدوغما الدينية وما تسببه من نسبوية أخلاقية، فيرد بيترسون من تارةٍ أخرى بألا يجب أن تؤمن بإله بقدر أهمية أن تتصرف كأنك تراه، مُتخذاً من موقف الجنة والنار تمثيل بلاغي لأي مفهوم يحمل مَدلول الخير والشر، الأخلاق وانعدامها.

بالمناسبة وكخروج بسيط عن موضوع، من المتعارف عليه أنّ الفردانية هي سمة المجتمعات الصناعية، أي المجتمعات الغربية في غالبها. وأن الجماعية هي سمة للمجتمعات الزراعية، أي المجتمعات الشرقية تقريباً.

ومن ناحية بيولوجية بحتة، الرئيسات جميعاً – بما فيها الإنسان – تكيّفت للعيش ضمن جماعات. وتشير الدراسات الحديثة إلى أن سلوك الإنسان العاقل في التعاون مع أفراد غرباء تماماً من أجل تحقيق مصالح مشتركة تعود بالنفع على الجميع هي ما أدت لهيمنة هذا الإنسان عندما انقرض الآخرين. إضافةً لعوامل أخرى مِن نمط ابتكار أسلحة قذف بعيدة والقدرة على التوقع… الخ.

أي أنه باختصار هكذا هي طبيعتنا. نحن كائنات اجتماعية شئنا أم أبينا. تريد أن تنعزل؟ نعم، لا مانع ولربما شيء جيد. لكن ستكون ضريبة ذلك نوع من الوحدة وانعدام السعادة وقلة هرموناتها لأنك بذلك تخالف بنداً بيولوجيا واضحاً قابعاً في صلب تكوينك. بند أنك كائن اجتماعي، ولولا هذه الاجتماعية التي أصبحت مكروهة الآن لما وصل الإنسان وجنسه لمرتبة السيادة.

فسلطعون بيترسون تجاه العدمية أنك يجب أن تفعل، لأنها مسؤوليتك الشخصية وتبدأ بها من نفسك قبل الآخرين ولا يجب أن تكون ممتعة بل أن تكون مُبررة. أن تتألم فيها لأجل تحقيق غايات أبعد.

السلطعون الأخير هو سلطعون التوجه السياسي/الاقتصادي الذي يناقشه بيترسون في لقاءاته خصوصاً بعض المواضيع الساخنة، كالنسوية والهرمية والأبوية في المجتمع إضافةً للمتحولين جنسياً ومدى الحريات والحقوق الواجب منحها أو سلبها. أرى هذا السلطعون ليس عاماً بقدر ما هو خاصاً به كونه مواطن كندي يعيش في بلد يشهد تحوّلات مركزية على المستوى المجتمعي.

فالنسوية والمتحولين ورأسمالية الاقتصاد بشكل كامل كأمريكا الشمالية. أو شيوعيته واشتراكيته كبعض الدول الشرقية حفيدة الاتحاد السوفياتي. أو الدول الاشتراكية في أمور ورأسمالية في أخرى كألمانيا والسويد مثلاً، تخضع لمعايير مختلفة ضمن كل بلد من البلدان.

ويرافقها مع ذلك تحولات على نطاق الفرد، المجتمع، وأحياناً البيئة. فيتمدد الموضوع كثيراً ويتسع بشكل أفقي عرضي، ويصير من الصعب لأي مفكر ضبطه بدقة مهما بلغ من اطلاعه ما بلغ. لذلك أرى أن هذا السلطعون أقل أهميةً بالنسبة لنا وللجيل الذي يحاول أن يحسّن من حياته بقدر أهمية السلطعون الأوّل والثاني ربما.

بيترسون باختصار هو رجل السلطعونات.. سواءً نفسية، سياسية، اقتصادية، فلسفية، اجتماعية… الخ. سلطعونات من مختلف الاتجاهات والزوايا. إلا أن الرؤيا الحاكمة والأهم فيما يطرحه هي تلك النفسية التي تناقش حياة الإنسان مِن الداخل، وليس قضايا الصراعات والتحولات السياسية وأي شيء من الخارج.

على الرغم من مساسها لما في داخل الفرد وانعكاسها عليه في كثير من الأحيان. لكنها تبقى تأثيرات خارجية تصبح عديمة القيمة إن كان الداخل مُستقراً.