عبدالرحمن عرفة
عبدالرحمن عرفة

د

ممرات غير آمنة

في ظل القصف المعلوماتي اليومي الذي نتعرض إليه.. متمثلاً بمقالات وفيديوهات وأخبار وصراخ جيران وعويل أقارب وصراع عقارب.. يغدو الإنسان الحديث في حالة ماسة للهرب بعيداً عن الصخب.. للاختباء في ملاذ آمن يحيا به ويلجأ إليه.

مع راجمات المعلومات اليومية التي تُطلق على أرضنا الفكرية بلا هوادة.. تغدو فكرة الممر الآمن ومنطقة حظر الطيران الشخصية أمر مهم وواجب الحدوث، حيث يدشن كل منا مساحات خاصة به؛ مساحات آمنة.. لا عبور للأخبار فيها.. لا عبور للطيران والذباب فيها.. لا يجوز للمشاكل أن تقترب منها.. مناطق خاصة بنا وحدنا..

مناطق حنونة جداً.. مناطق آمنة جداً..

لكن وكعادة أي منطقة مُحصنة شديدة الحماية، لا بد من وجود ممرات عليها الكثير من نقاط التفتيش حتى تصل إليها.. في بعض الأحيان قد تكون هذه الممرات واسعة تسمح بمرور الكثير من الوافدين، وفي أحيان أخرى تكون ممرات ضيقة وكأنها قسطرة حالب..

ضيقة بشكل خانق، تجثم على روحك وكأنها فرس نهر.. تخنقك وأنت تحاول الوصول، تحاول العبور..

لا زلت أعتقد أن أهم منطقة آمنة لدى كل شخص هي تلك المناطق القائمة في الذاكرة.. وفيما يتعلق بتنشيط تلك الذاكرة وإحضارها على الدوام في عالم الحدث السريع، فلا أعتقد أن هناك وسيلة أفضل من يوتيوب. حيث بإمكاننا تفعيل مسارات آمنة قديمة، يمكنك أن تبحث عنها وتجدها من خلال نقرات سريعة.

بين كل فينة وأخرى.. أكون حريصاً على فتح أغنية مسلسل بقعة ضوء.. كي اسمع اغنية “يا ناس خلوني بحالي”..

هل ما زال بقعة الضوء يُعرض على الشاشات؟ هل مازال هناك سكيتشات كما السابق؟

مر زمن على عدم مشاهدة بقعة الضوء أو باب الحارة أو أي مسلسل آخر.. إلا أنني أحرص دائماً على سماع شاراتهم.. شاراتهم تذكرني بالمناطق الآمنة الخاصة بنا.. شاراتهم تقذفنا لفترات معينة بأمكنة معينة وتواريخ معينة.. شاراتهم تشكل ملاذاً آمناً يمكنك الهروب إليه أو منهُ حتى..

“يا ناس خلوني بحالي”..

“وحدي ومرتاح بالي”..

“في هيك وفي هيك”..

“يا با مين بيحلالي”..

دعونا نطرح سؤالاً مهماً.. لماذا حزن الوسط العام عندما توفي حاتم علي؟

إخراجه جميل لا أحد ينكر ذلك..

سيناريوهاته بارعة لا أحد ينكر ذلك..

كل ما قدمه قيم ومميز لا أحد ينكر ذلك..

إلا أن السبب الأكبر للحزن أن حاتم علي نفسه كان أكبر ممر آمن نملكهُ.. ومع رحيله أغلق أكبر ممر مشترك فيما بيننا.

مع غيابه.. بتنا نقف على آثار ممرات صغيرة نجدها في شارات المسلسلات تقلد وتحاكي عالماً كنا نحبهُ. عالماً كنا نشعر فيه كما جعلنا حاتم علي نشعر ذات يوم.

في ذلك العالم، كل من تحبهم حولك.. في ذلك العالم كنا نحن المحور لا الهامش، هامشٌ يحاول العبور لممرات باتت غير آمنة، ممرات ضيقة خانقة.. في محاولة واهنة لترك المكان.

في حياة كل منا حاتم علي يفتح ممراً آمناً.. ممراً لا طيران فيه، منطقة آمنة يمكنك أن تلجأ إليها في عالم اليوم الموحش حيث القصف المعلوماتي اليومي بوابل الإشعارات المتناثرة من هنا وهناك.

احرص على خلق منطقة خاصة بك.. احرص على اعتناق فتراتك الزمنية المميزة، وحاول أن تؤبد كل اللحظات الجميلة على دفتر الخلود، حيث يمكنك أن تحبس تلك اللحظات لتأخذها معك أينما ذهبت.

في عالم اليوم الحديث، حيث التطور العالي.. لديك أب تحبه؟ لديك أم تحبها؟ أناس تحبهم؟

احرصوا على أن يرسلوا لكم تسجيلات صوتية، فبعد مرور زمن طويل ولربما قصير إن أراد القدر أن يباغتنا، ستفتح رسائل الواتساب أو تطبيق ما آخر وتسمع أصواتهم وكأنهم يحادثونك الآن! ستسمع تسجيلات صوت أمك بعد أن وافتها المنية منذ زمن بعيد، وتحزن..

ستسمعين تسجيلات والدك بعد أن ترك العالم بعد عناءٍ طويل، وتحزنين..

إلا أن أصواتهم ستشكل ممراً آمناً.. يحملك إلى مناطق مُحصّنة؛ مناطق يمكنك أن تحتمي بها.

عالم اليوم هو عالم الفرص المفتوحة على مصراعيها.. لكن وكعادة الطرق العامة المتاحة للجميع تكون صاخبة وغير آمنة ولا مكان للحنان فيها. وعقل الإنسان يكره ذلك، فهو بحاجة لمسالك وممرات روتينية نمطية يعتاد عليها ويألف معها.

حدد ممراتك الآمنة، فهي ليست مضمونة، وتغلق بشكل مستمر، ولعل في يوم رحيل حاتم علي سقط أكبر تلك الممرات وأغلق، فبات من اعتاد العبور به مشرداً بين الممرات الأخرى الواهية..

سينتهي مسلسل بقعة ضوء كما رحل حاتم علي، ستتوقف شارة “يا ناس خلوني بحالي” عن ترديد نفسها.. حينها لن تجد ممراً كنت قد اعتدت العبور منهُ، حينها سيكون الممر قد غدا غير آمنٍ أبداً..