علا شمس
علا شمس

د

بوظة وملح

في مدينتي الصغيرة ألكمار في هولندا دكان شهير لبيع المثلجات يقع في وسط المدينة بجانب قناة مائية. تعود شهرة هذا الدكان كونه ملك لعائلة ألكمارية يصنعون المثلجات على أيديهم. تتوارث الأجيال هذه الحرفة مع الدكان ويعلمونها لأولادهم جيلاً بعد جيل. يفتح الدكان أبوابه صيفاً ويغلق شتاءً. للدكان مرفأ صغير على القناة المائية تستطيع القوارب الصغيرة أن تتوقف وتقرع جرس صغير مدلى هناك لطلب المثلجات على طريقة التيك أواي.

أذهب دوماً بصحبة أطفالي إلى ذلك المكان لاستحضر ذكرى احتفظت دوماً بها داخلي. ذكرى كشك صغير لبيع المثلجات يقع في قبرص، تلك الجزيرة الصغيرة الواقعة في حوض البحر الأبيض المتوسط. في مدينة ليماسول، شارع صغير حميم تصطف الأشجار على جانبيه، كشك أبيض صغير، وسيدة لطيفة تبتسم لنا وتحيينا بلغتها اليونانية. كان ما يفصلنا عن السعادة درجتين خشبيتين، ما إن صعدنا عليها أنا واخوتي حتى امتلكنا عالماً مليئاً بالألوان، يشع من داخل براد المثلجات داخل الكشك.

لذلك المكان القدرة على قلب مزاجنا رأساً على عقب. الحيرة والسعادة الممزوجتان سوية والتي نشعر بها عند اختيارنا مانريد من المثلجات الملونة والمغرية، وتلك الابتسامة التي نتلقاها من السيدة صاحبة الكشك والتي أصبحت صديقة لوالديّ بعد ذلك، لكل ذلك وقع كبير في نفسي.

بدأت حكايتنا هناك عندما بدأ والدي يعمل لحساب شركة قبرصية تعمل في مجال العقارات. وكان من ميزات هذا العمل، حصول والدي على شقة صيفية في قبرص كل عام لنقضي بها جزءاً من اجازتنا الصيفية في إحدى العقارات التابعة للشركة، تحديداً في مدينة ليماسول السياحية. اعتدنا أن تحط الطائرة بنا في مطار لارنكا الدولي ومنها ننطلق مع سائق أجرة كان أبي يتعامل معه دوماً باتجاه ليماسول.

نمر في طريقنا على بحيرات الملح، والذي كان يعد لوقت قريب من أهم السلع التي يتم تصديرها من قبرص بعد استخراجها من البحيرات صيفاً. قبل أن تصبح البحيرات وجهة استرخائية ومعلماً سياحياً للزوار فقط. أذكر أنني كنت أحب فتح زجاج نافذة السيارة في تلك البقعة تحديداُ. الهواء المرتطم بوجهي من جراء سرعة السيارة يكون محمّلاً بطعم الملح الذي يعلق بدوره على شفتي الجافتين أو هكذا شعرت! ملح نقي صافي من دون تكرير أو تعديل. عندها فقط أتخيل أنني أنتمي لمدن الملح كما أطلق عليها عبدالرحمن منيف، كوننا كنا في ذلك الوقت نسكن في قطر إحدى دول الخليج العربي.

الطريق يمتد لساعة تقريباً قبل أن نصل إلى وجهتنا حينها ولكنها كانت الأطول على الاطلاق. الشوق إلى نقطة بداية العطلة هو السبب. المنزل الصيفي يقع في بناء بني اللون وله شرفة تطل على مركز الاطفاء لتلك المدينة. منزل صغير وبسيط وكأنك تقضي إجازتك بأحد الشاليهات. قضينا معظم أوقاتنا على البحر، ولاعبنا القطط المنتشرة بكثرة هناك والتي امتدت علاقتنا بها بفترات إقامتنا في قبرص، وفي المساء كنا نذهب بجولة على القدمين للتنزه بين المطاعم والمقاهي ومحلات بيع الهدايا والتذكارات. بالإضافة لمرورنا بجانب مركز الإطفاء في طريقنا إلى شاطئ البحر، كان هناك دكان يقع داخل منزل عائلة قبرصية لبيع أدوات السباحة وملابس البحر. كمعظم أهالي تلك المدن السياحية الذين يستغلون جزءاً من مكان إقامتهم لجني المال منه.

توالت زياراتنا لقبرص لسنوات طويلة. انتقلنا خلالها إلى منزل صيفي آخر يقع داخل تجمع سكني جديد، مكون من أبنية ذات أربعة طوابق لونها أزرق، وتحمل اسم الشركة التي يعمل بها والدي بلون أحمر. المنزل الجديد الذي استخدمناه خلال عطلاتنا تلك يقع مباشرة على الشارع الرئيسي للمنطقة السياحية في ليماسول، محاطاً بمختلف المطاعم والمقاهي والفنادق. للمجمع برمته موقع استراتيجي يطل من إحدى جوانبه بشكل مباشر على بحر ليماسول الهادئ الأزرق الجميل، ومن طرف آخر على مدينة الملاهي الملاصقة للمجمع السكني والتي اعتبرناها جزءاً من أملاكنا الشخصية، ومن طرف آخر يطل على ملعب التنس التابع للمجمع.

لهذا المنزل بالتحديد أثر كبير في توسيع مداركنا ونشاطاتنا أنا واخوتي. حيث كان بمثابة نافذة فُتِحت أمامنا لنرى العالم من خلاله. البيت الجديد كان مختلفاً عن البيت القديم من حيث المساحة والتشطيبات الفاخرة للمنزل. توسط صالة المنزل بار رخامي كبير. أمضينا أوقاتاً طويلة أنا واخوتي نلعب خلف هذا البار. للمنزل أربع شرفات ثلاث منها تطل على البحر مباشرة. المطبخ الكبير مزدان بسيراميك يحمل رسومات لفتياتٍ يقمن بعصر العنب، بالوقوف عليه وطحنه بأقدامهن. روت والدتنا لنا المقولة المتوارثة شعبياً بأنه يشترط أن تكون تلك الفتيات العاملات بعصر العنب عذراوات! لتنقل إلى محتسي الشراب محبة واحترام الجنس الآخر.

ضم المجمع الذي بدأنا نقضي أوقاتنا الصيفية فيه جنسيات مختلفة بالإضافة إلى المواطنين الأصليين. فكان لنا أصدقاء من عائلات سورية ولبنانية وايرانية وعراقية وكويتية وباكستانية والعديد من الجنسيات المختلفة. أذكر أنه في آب / أغسطس 1990 حصل الاجتياح العراقي للكويت وكنا في قبرص في ذلك الوقت. التوتر الذي ساد على الجميع وانتقل بدوره إلينا لم نعرف كأطفال تبريره، ولكنها حتماً كانت الحرب. ولكن الملاحظ آنداك أن علاقة من الود نشأت بين عائلتين احداهما كويتية والأخرى إيرانية (تعيش كلتاهما في الكويت) بعد أن كانت دوماً متوترة. وشرحت لنا والدتي أن السبب في ذلك الود إعلان إيران موقفها المعادي للغزوان العراقي على الكويت. في ذلك العام استقرت العائلتان في قبرص لعدم قدرتهما على العودة إلى الكويت إلا بعد انتهاء الحرب. وكنا المستفيدين من هذا السلم الذي حل على العلاقة التي جمعتنا سويةً.

بالطبع هناك بعض المنازل التي يتم تأجيرها صيفاً لعائلات جديدة كل عام، فيتعاقب عليها أشخاص مختلفون لا يحتلون مكاناً كبيراً في ذاكرتنا. أما من امتلك منزلاً هناك فقد أصبحنا نلتقي سويةً على الدوام كل عام في إجازاتنا الصيفية، ويحمل البريد أخبارنا برسائل نتبادلها في الشتاء إلى أن نلتقي صيفاً مرة أخرى. تعلمنا الكثير عن عادات وطبائع تلك الشعوب من خلال تبادلنا الثقافي ذاك. مازلت وإخوتي نحتفظ بهذه الرسائل في منزل العائلة في دمشق.

نشاطنا اليومي يبدأ منذ لحظات الصباح الباكر على صوت فيروز يصدح من سبيكرات المسجل الخاص بوالدي، بالإضافة إلى صوت المذيعة السورية هيام حموي التي كانت تقدم برامجها عبر إذاعة راديو مونت كارلو الناطق باللغة العربية. بعدها نذهب للتبضع من السوق التجاري القريب من المنزل، عبر المرور بطريق مختصر بجانب حمامات السباحة التابعة للفنادق التي تملأ الجوار، والمكتظة بالسواح. فطورنا اليومي جبنة الحلوم القبرصية الشهيرة مع الخبز القبرصي القريب من الخبز اللبناني بالشكل والطعم والعسل الطازج غير المغشوش. وبعد ذلك يتوزع الوقت ما بين شاطئ البحر ومدينة الملاهي وملعب التجمع السكني، بالإضافة لذهابنا لكشك المثلجات بجانب المنزل القديم كما اعتدنا.

شواطئ قبرص الساحرة، احتلت جزءاً كبيراً من صيفياتنا. أول تجاربنا بالحرية والتي اختبرناها كمراهقين كانت على تلك الشواطئ. حيث تعج الشواطئ بالزوار المتمددين على الرمال الذهبية ليستمتعوا بدفء أشعة الشمس والتي يفتقدونها ببلادهم الباردة كون أغلب السياح يأتون من أوروبا. معظم الشواطئ مجانية ومفتوحة لكل الناس. من عدا بعض الشواطئ المغلقة التابعة لأحد الفنادق أو الشواطئ الخاصة. للناس هناك الحرية المطلقة لاختيار الملابس التي سيستخدمونها للسباحة أو حتى عدم ارتدائها إطلاقاً! تبادل القبل متاح للجميع على تلك الشواطئ دون أي روادع قانونية أو موانع اجتماعية.

كأطفال ومراهقين قادمين من مجتمع محافظ كقطر، أو ينتمون بشكل عام لعادات وتقاليد المجتمع الشرقي الذي يحكم تصرفاتنا ومظهرنا وسلوكنا، كان لا بد أن نمر بمرحلة صدمة قبل أن نتقبل الاختلاف الذي نراه! ونتجاوزه بمساعدة والدتنا التي ساهمت بشرح مفهوم الحرية واحترام خيارات الآخرين.

البارات المفتوحة والحفلات حتى ساعات الصباح الأولى جعلتنا ندرك أن هناك حياة مختلفة كلياً في قبرص خاصةً في الليل. يحتفل القبرصيون يومياً في ليالي الصيف! لم يكن يسمح لنا كأطفال الدخول إلى تلك الأماكن. إلا أننا تمكنا من رؤية طيفها من الخارج. وبعد أن أصبحنا في سن معينة تمكنا من حضور بعض هذه الحفلات وضمن إطار مراقبة الأهل أو أحد الأقارب الموثوق بهم. بالتأكيد كان لإخوتي الأكبر سناً الحظ الأوفر بحضور مثل هذه الحفلات، ليس لأنهم ذكوراً وإنما بسبب عمرهم الذي ساعدهم.

أياماً أخرى خصصت للنزهات البعيدة (السيارين) التي اعتاد والديّ أخذنا عليها خارج حدود ليماسول. حيث قمنا بزيارة مختلف الشواطئ كبافوس وآيا نابا ولارنكا. بالإضافة إلى سلاسل الجبال الشهيرة ترودوس حيث يستقر جبل اوليمبوس الشهير وغابات بافوس المليئة بأشجار الأرز والتي تعيد أمي إلى أيام طفولتها التي قضتها في بلدها الأم لبنان. كأنك تقرأ كتاباً عن تاريخ تلك البلاد كانت تلك النزهات بالنسبة لنا. كنا نشاهد في طريقنا الصناعات اليدوية الشعبية، ومزارع التفاح وكروم العنب التي تقدم مختلف أنواع النبيذ، بالإضافة للشلالات والينابيع والكنائس القديمة، والأديرة وبعض الآثار اليونانية التي تعود بنا إلى زمن الأساطير القديمة، كصخرتي أقروديت وحمامات أدونيس. أشعلت هذه الزيارات الحماس عند والدتي التي قرأت وتبحرت في عالم الأساطير، وقامت بعد ذلك بترجمة بعض تلك الأساطير للغة العربية.

نقل والدايّ ثقافة السيارين السورية بشكل منظم ومرتب، بما يتناسب مع ثقافة الرحلات الأوروبية. الطاولة والمقاعد التي تطوى كانت من أساسيات تلك الرحلات. أبي كان وما زال خير من نظم حفلات الشواء (الباربيكيو)، بحسبة صغيرة يستطيع تقدير كمية اللحم المطلوب للشواء لتكفي الجميع دون زيادة أو نقصان. كان يقضي وقته بإعداد أسياخ اللحم المشوي والقيام بالشواء بعد ذلك. وأمي ساعدته ابتداءً من إعداد المقبلات اللذيذة، وانتهاءً بترتيب العدة التي سنستخدمها، وتجهيزها لنا لتلبي كافة احتياجاتنا أثناء قيامنا بأحد هذه السيارين. واشتهر أبي بالبطيخة التي يقدمها لنا بعد انتهائنا من الطعام. حيث يقوم بتقشيرها وتقديمها بشكل مميز بعد أن يفصل اللب الداخلي للبطيخة عن الجوانب، باستخدام السكين دون أي أدوات أخرى، والتي كانت تنال إعجاب كل من رآها.

أغاني ماجدة الرومي وراغب علامة وربيع الخولي وميادة الحناوي وأم كلثوم ووردة الجزائرية، رافقتنا من مسجل السيارة. شاركنا هذه النزهات بعض من أصدقائنا، كنا نسير سوية بجولات استكشافية لنتعرف على جغرافية المكان.

لأبي هواية أخرى حافظ عليها طوال سنوات حياتنا وفي كل الأماكن وأورثنا إياها، ألا وهي التصوير الفوتوغرافي. أحب أبي التقاط الصور وتوثيق اللحظات وإن اعتبرناها غير مهمة في ذلك الوقت. استطاع بذلك أن يحفظ لنا كل مراحل حياتنا وكل نزهاتنا، من خلال صور فوتوغرافية التقطها لنا وسجل بها تفاصيلنا، التي وإن شرحتها لكم لن تكتمل في مخيلتكم من دون تلك الصور. لم يكتفي والدي بذلك بل قام بترتيبها ضمن ألبومات حسب الزمان والمكان. وبعد التطور التكنولوجي الحاصل، استطاع أن يأرشف كل مجموعة الصور الورقية التي يمتكلها لتصبح صور رقمية على الحاسوب. إلا أنه كان المظلوم الوحيد حيث كان الجندي المجهول في أغلب الصور. فلم يستطع أن يحتفظ بصور تخصه خاصة أن صور السيلفي لم تكن موجودة آنذاك.

مخيلتنا مع ذكرياتنا مع تجاربنا التي اختبرناها، لم تكن ترى في قطر حيث كنا نسكن سوى بلداً لطيفاً يتميز بلون أصفر كئيب وأشجار نخيل تشمخ في ذلك الطقس الحار بوجه كل القيود المفروضة من المجتمع المحافظ هناك. ولم تكن ترى في سورية سوى إرثاً تاريخياً وجمالاً نحبه رغم عدم مثاليته، ورغم إحاطته بمجموعة من العادات والتقاليد التي تتحكم بحياة الناس هناك دون أي سبب واضح لذلك . وكانت ترى في قبرص جمالاً خلاباً ومكاناً منفتحاً وخالياً من تلك القيود المحيطة بمجتمعاتنا العربية، والتي أعطتنا الفرصة لنرى الفوارق التي نعيشها في الحياة من دون قيود أو أغلفة تخفي مابداخلها.

تركنا في تلك الأماكن جزءاً منا وحملنا معنا جزءاً منها. بالرغم من أننا الأشخاص أنفسهم بالأماكن الثلاثة إلا أننا كنا نرى الأمور مختلفة تبعاً للمكان الذي نكون به. لم ندرك في ذلك الوقت كل هذه الأمور! ولكن مع الوقت أدركنا أن تجربتنا الوفيرة في قبرص والمليئة بالرحلات والانفتاح الثقافي الذي عشنا فيه، والحرية التي كنا نحصل عليها هناك، والتحرر من قيود المجتمع التي كبلتنا معظم الوقت في حياتنا بقطر وبزياراتنا لسورية، ساعدتنا بشكل كبير على أن نتمكن من تقبل الطرف الآخر المختلف، والقدرة على الاحتكاك به ومحاولة فهم طريقة تفكيره والتعلم من تجربته أيضاً.

وبالعودة إلى تجربتي الأولى التي بدأت يوماً في ذلك الكشك الأبيض في ليماسول، فأنا أعترف بأنني لم أحب يوماً المثلجات كما أحببتها من ذلك الكشك، ومن يد تلك السيدة تحديداً التي تسكن في المنزل المجاور للكشك. وأنني منذ ذلك الوقت أصبح لي شغفٌ بأكشاك المثلجات التي قد تطل عليك بابتسامة تشبه ابتسامة تلك السيدة، أو على ثلاجة تحوي عالماً ملوناً داخلها. والتي تمنحك بعد صعودك على درجاتها الخشبية حياةً خالية من الكثير من التعقيدات، وتحررك من تلك القيود المرتبطة بأفكار وعادات لا تنتمي إليها، وستساعدك لترى أن هذا الاختلاف الموجود بين المجتمعات هو مايجذبنا للمعرفة. ورؤيتك للمثلجات داخل البراد فذلك يعني أنك ترى الصورة بشفافية مطلقة دون أي مواربة أو تغيير. وقدرتك على تحديد واختيار رغباتك منها يعني أنك استطعت تحديد اتجاهاتك وقناعاتك مهما كانت مختلفة عن مجتمعك أو حتى مشابهة له.