حسن عدره
حسن عدره

د

كيف يمكن النظر إلى السَعادة؟

لا شكَ أنَ أعسر إجابة هي عن هذا السَؤال ، ولمَا كانت السَعادة هاجسا إنسانيَا يسعى إليه الإنسان ، فإنَ السعادة تظهر في السعي الدائم للبلوغ إليها خاصة في عصرنا الرَاهن و الألفية الثالثة اللَتي تتميَز بالعولمة و سيادة الأمركة، و نلاحظ إنتصارا لمبادئ النجاعة التَقنيَة الذَي إلتحف بمفهوم الحضارة الراهنة في واقع الحضارة المابعدية و ما بعد الحداثة اللَتي إتَسم بها الفكر الغربي و بدرجة أقل الثقافات الشَرقيَة.

هل السعادة هي هاجس إنساني دائم نظرا لإرتباطه بحياة الإنسان أم أنَها تعبَر عن وهم يسعى الإنسان إليه بإعتبار الوهم خير من الحقيقة ؟ هذا إن لم تكن السعادة وهما تنشأه الأنظمة الرأسماليَة و الإمبرياليَة لنشر الوهم مقابل تعاسة الإنسان .

بمثل  هذا النَسق الميتافيزيقي ، يطالعنا هذا التسَائل باحثا في كيفيَة سعادة الإنسان و كيفيَة بلوغها ، كما أنَ السعادة موضوع راهني تتميَز به الحضارة الإنسانيَة حيث أنَ السعادة تتعدَد إلى مستويات تشمل المنظور العلمي و المتمثَل في السيطرة على الطبيعة و منظور إجتماعي بضمان علاقات تواصل مع الآخر و من منظور سياسي و ذلك بالسَعي إلى الحرَيَة و ضمان الحريَات الفرديَة التَي من شأنها تحرير الإنسان من قيود الفردانيَة و العنف عموما و تنظيم حياته .

لقد إتَسم العصر الرَاهن بسيادة التَقنيَة و العلم عموما و اللَتي حقَقت مفهوم السعادة ، من ذلك نقل حياته من عناء و شقاء إلى حياة رفاهيَة و راحة ، و لقد إنطلقنا من مفهوم اليوم و العصر الرَاهن لأنَ السَعادة صارت هاجسا إنسانيَا إذ أنَ السَعادة تمظهرت في السَيادة على الطبيعة و السيطرة عن طريق التكنولوجيا و الأقمار الصناعيَة ، وليست السيطرة إلَا نوعا من أنواع السَعادة و هو ما يشهد بوعي الإنسان خاصَة و أنَه تمكَن من السيطرة على عناصر وجوده كما تعاضد هذا المستوى العلمي مع المستوى الأخلاقي و الإجتماعي و أصبح المجتمع يسعى إلى مزيد التميَز في نطاق تبادل حضاري عن طريق العلم اللَذي لطالما عرف على أنَه” نور ” بكلَ ما تعنيه هذه العبارة من هداية و تنوير سبيل الإنسان في الميدان المعرفي و جعل الإنسان منفتحا بدل الإنغلاق و يظهر ذلك في العلوم الإنسانيَة التَي تهدف إلى تأكيد كينونة الإنسان و وجوده و جعلته منظومة تخضع للدراسة و تخرجه من أزمات القلق و الخوف و بهذا يضمن الإنسان تحقيق سعادته و التي تظهر أيضا في كيان إصتلح على تسميته بالدَولة التي تضمن مبدئ الحريَة و تضمن حقوق الإنسان في إطار مدني ، فعلاقة الإنسان بالدَولة هي علاقة تكامليَة حيث يصبح الإنسان منظما إلى مجموعة تكفل حرَياته الفرديَة و يبقى حرَا وفق منهج قانوني حيث يجب على الإنسان الإلتزام و لئن كانت الدولة راعية للحريَة فإنَها مع ذلك راعية للنَظام و مِؤسسة له فلو إنعدم النَظام لسادت الفوضى و إنعدمت المساواتيظهر ذلك في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الهادف إلى قيام النَظام و العدل و المساوات .

لقد كشف نصَ الإقرار أبعاد السَعادة و السَعادة لها عدَة أبعاد منها العلمي و السَياسي و الإجتماعي حيث أنَ السَعادة أمر يدرك و هي أمر لطالما تشوَقه الإنسان على حدَ تعبير الفرابي و بالعلم يمكن توفير السَعادة الإنسانيَة في عدَة جوانب من حياة الإنسان بالسيطرة على الطبيعة و تلبية حاجة الإنسان حيث أنَ الحاجة هي جوهر الإختراع و أصله وبهذا تتجلَى السيطرة من خلال مفاهيم كالحتميَة و الإحتمال وفق منهج رباعي ينطلق من الملاحظة و تعقبه الفرضيَة لتلحقه بالتجربة ، ليستخلص قانونا في نهاية الأمر و بيان أنَ حالة الكون في الحالة الرَاهنة هي سبب لحالة سابقة و علَة لحالة لاحقة ، و هما حالتان يمكَنان من معرفة الحالة المستقبلية للكون و لايختلف المستوى عن المستوى الأخلاقي و الإجتماعي فالأخلاق تضمن تواصل المبادئ و توازن العلاقات ، وهذا ما يضمن الحرَية في الإطار القانوني و هياكل سياسيَة … تنتصب العلوم الإنسانيَة للكشف عن الواقع المحسوب حيث تمزج مفاهيم العولمة و التقنية فكيف يكون فضح تورَط العلم في تعميق جراح الكينونة الانسانيَة ؟ لقد عبَر المفكَر الإيطالي “جياني فاتيمو”[1] عن قلقه من تأزَم الواقع و بيَن في كتابه “نهاية ألحداثة”  أنَ ما يسم واقعنا هو التمزَق بين الرَغبة في تغيير الواقع ربَما إلى الوراء وإلى الزَمن الماضي حيث كانت للذَات الإنسانيَة قيمة و هدف حتَى وإن كان ذلك على شكل أسطورة أو وهم يحدَدها في الزَمن الحاضر كلَ من الشَعر والفنَ. لكنَ الكائن أفرز فائض عقلنه ورقابة ، فحتَى النَشاط الاقتصادي والعلاقات الاجتماعية وأشكال التَواصل و الممارسات الجنسيَة قد استعادت قلق “فرويد” من الحضارة المعاصرة[2] و يحسم يورغن هابرماس مي كتابه “العلم و التقنية كإيديولوجيا”[3] ولئن كان العنوان يسقط أوهامنا الفكريَة بخصوص حياد العلم ، فالعلم و التقنيَة متورَطان في استثمار الإنسان اقتصاديا وإرغامه سياسيَا .ما يميَز حضارة اليوم هو حضارة العمل حتَى أنَ بول ريكور قد عنون فصلا في كتابه التَاريخ و الحقيقة يحمل عنوان حضارة العمل والكلام و يسجَل فيه كيف يتحوَل المجتمع من فضاء الندرة إلى مجال الوفرة والأمر أدهى و أسوأ بالنَسبة إلى هذا النَشاط الإنساني الذَي يتعلَق بالإعداد المعقلن الذي يعبَر عنه “هابرماس” بمخطَط التنمية و كم من مرَة تعوَدنا على هذه العبارة انطلاقا من الخطابات السياسيَة الممتلئة الفارغة تتعلَق بالتنمية والازدهار وبالعودة إلى مصدرها مثل علم الاقتصاد السياسي.

إلَا أنَنا تغافلنا عن جملة من الحقائق من شأنها أن تجعلنا نعي حقيقة السَعادة إذ نجد في المجال العلمي و التَقني أنَ الإنسان صار خاضعا و أصبح عبدا للآلة و أنَ العلوم الإنسانيَة صارت توظَف فيما هو غير إنساني كالعقلنة المسبقة لأوقات العمل وأوقات اللَهو فيصير العمل قدرا و تصبح أوقات الرَاحة إستعدادا للقيام بعمل آخر و هنا لا يكون العمل عنصر محرَرا بل يصير سلطة على الإنسان الذَي يتوهَم الحريَة في عمله في إطار منظَم ينقل الإنسان من الذاتيَة إلى الرَبوتيَة ، ينتج ليستهلك و يستهلك لينتج و ليعيد الإنتاج و يدور في حلقة مفرغة ، تتقاذفه المنظومات و تزيد من إغترابه و أزمته و تدفعه إلى إلغاء إنيَته و يصبح عبدا للآخر ، يصبح العامل محاربا و المحارب عاملا أي أنَه سيصبح مدافعا عن عبوديته كما يدافع عن حريَته، و لئن كان المقصد الأسمى لوجود الدولة هو تحقيق الحريَة وضمان النَظام ، فإنَ هذه الحريَة تمنحها الدولة للإنسان و تنتزعها منه و تنتزع بذلك السَعادة الإنسانيَة التَي تعتبر حلما بالنسبة للإنسان، و بذلك تأسَس الدولة لمفاهيم معلَبة كالحريَة و العدالة و المساوات وهي كلَها مفاهيم طوباويَة تنشدها الفلسفة و الإعلان العالمي لحقوق الإنسان فتصير الحرَيَة تعلَة للسيطرة على الشعوب و تصبح محلَ مزايدات و مساومات في الخطابات السَياسيَة و حرب العراق نموذج على ذلك و تجدر الإشارة إلى تلك العقلانيَة الميكروفيزيائية التي تتحكَم في الدول و تضفي بذلك صبغة قاسية على الوجود الإنساني .إنَه عنف غير مرئي و تتعدَد أشكال العنف ، و هنا يكون العنف وسيلة لبلوغ السعادة ، ليست سعادة الإنسان و إنَما السَعادة الكاريزماتيَة للدولة وهو ما تتسَم به الدولة و تسلب به سعادة المواطن و كذلك ترتبط المواطنة بمفهوم الدولة والحريَة ليكون المواطن عبدا لنظام سياسي مستبدَ به . لقد إكتشفنا بأنَ السَعادة لا يمكن بلوغها فهي هدف الإنسان الأسمى اللَذي لا يدركه و الحلم اللَذي لا يتحقَق و بالتَالي هو وهم و حكم مسبق وهو ما يثير قضيَة جديدة و إشكاليَة جديدة تطرح في عصرنا الرَاهن وهي كيفيَة النَظر إلى الوهم، ما العيب إذا أقيمت السَعادة و الواقع على الأوهام فوهم نافع خير من حقيقة ضارَة ، الأوهام قد تكون خيرا وهو مايؤكَد سعي الإنسان إلى الوهم و سلطة تفرض على الإنسان دون أن يشعر بها ، لكنَه يظلَ متعلَقا بهذا الهاجس الذي يبقى حلم الإنسان و حلم الفلسفة.

هنا ننهي مبحثا شرَع لحضوره نصَ الإقرار لنثني على أهميَته و نعلن أنَه مبنيَ على وهم ، بل ربَما سنبقى تائهين وسط كمَ متضخَم من الإشكاليات و الحلول الجوفاء ، إنَه مبحث منته قبل أن يبدأ ، بل يبدو أنَنا سنقرَ موضوعا أشدَ عمقا هو أنَه ما مدى سلطة الوهم على الإنسان و لماذا يتعلَق بهذا الوهم ؟ رغم أنَه يعقله و ربَما كان على الإنسان أن يمارس التزهَد و يتمكَن من بلوغ مبتغاه بل يجب تحديد هذا المفهوم و بيان غايات السَلطة و بيان تواطئها مع الإقتصاد و السَياسة لإنتاج كائن يمكن التَحكَم به من طرف عقلانيَة ميكروفزيائيَة موغلة في تمارس عليه عنفا غير شرعي ، متأثرة بعصر العقلانيَة الذي تتوفَر فيه المفاهيم المعلَبة و التي تجعل المفكَر يساهم في فضح هذه العقلانيَة بمعزل عن الواقع الإنساني.


[1] The End of Modernity: Nihilism and Hermeneutics in Post-modern Culture, translated by John R. Snyder, Polity Press, 1991. Translation of La fine della modernità, Garzanti, Milan, 1985

[2] Sigmund Freud. Ed. Peter Gay. Trans. James Strachey. Civilization and Its Discontents. New York: Norton, 1989.

[3] Jürgen Habermas ,Technology and science as ideology. Frankfurt am Main: Suhrkamp. [English, 1970, 1973b]