عبدالرحمن عرفة
عبدالرحمن عرفة

د

كيف نفهم كتابات فريدريك نيتشه؟

اليساريون واليمينيون، المؤيدون والمعارضون، النباتيون واللاحمون، مُناصرو الحداثة وناقديها، مُرتادو النوادي الرأسمالية والساهرون في أقبية الغولاغ الشيوعيّة، النازية الجديدة والنيوليبرالية، وهلم جراً. يقتبس الجميع مِن نيتشه، يُبرر الجميع مواقفه بنيتشه، يضع الجميع نيتشه كمظلة لتوجهاته وشمّاعةً لها.

إلا أن السؤال الأهم يبقى، مَن هو نيتشه وماذا يُريد أن يقول؟

«نحن ننتقم مِن الحياة بتأليفنا الأوهام عن حياة في عالم أفضل!» – نيتشه

حتى نفهم هذا الرجل يجب ألا نقرأ له بل نقرأ عنه. السبب في ذلك أنه فيلسوف صعب ومُعقّد النصوص. خصوصًا أنه عيّن في عمر الـ 23 سنة كأستاذ في جامعة بازل لمادة ظاهريات اللغة أو الفينومينولوجيا. فسياق صعوبة اللغة هو مجاله أساسًا. لذلك لا تتوقع أن تراه سهلًا سلسًا خصوصًا أنه يكتب بأسلوب شِعري ألماني. أما النقطة الثانية الواجب قولها، أنه لا يجب القراءة المباشرة له لأنه هناك اثنان منه. الأول هو نيتشه الظاهري الذي نُشرَ لنا. والثاني هو نيتشه المتأخر الموجود في المسودات والكتب التي لم يكملها فبقيت مُبتسرة غير ناضجة.

يتحدث عن هذا الكاتب مايكل تانر في كتابه «نيتشه: مقدمة قصيرة جداً» إذ وجدَ أن هناك مفاهيم لدى نيتشه مِن نمط (إرادة القوة – العود الأبدي) هي مفاهيم غير ناضجة كونهُ لم يكملها بشكل نهائي وكانت في مسوداته التي خطّت في نهاية حياته أو بعد موته وليس خلالها، فلم تخضع للتمحيص الكبير منه. كما أن نيتشه كان ذو أسلوب عنيف جدًا في الكتابة، أي أنه يتعب كثيرًا للظهور بصورة نهائية تستحق القراءة أو سهلة الفهم لدى القارئ. وبالتالي أن تُبنى الفلسفات ويعتمد الناس على مسودات فيلسوف كان يعاني جدًا في تشذيب أفكاره وصقلها وتحديدها كي تظهر بمظهر مُتسق يستحق القراءة ولا يؤول على نحو خاطئ، أمر شديد الخطورة. ولعلَ هذا ما جعل الكثير مِن المؤدلجين يلصقون عقائدهم مبررين إياها بنيتشه على الدوام. كون هناك اقتطاع لمسودات غير مكتملة واقتناص نصوص في غير سياقها لدى فيلسوف كانت حالته المصقولة عنيفة، فكيف المسودة قبل الصقل إذًا؟

«لا بد مِن تجاوز الإنسان إلى الإنسان الأعلى!» – نيتشه

بينما مفاهيم مِن نمط (الإنسان الأعلى – أخلاق العبيد والسادة – نقد الفنون – تنحية العقل والميل ما بعد الحداثي) هي بالفعل مفاهيم نيتشوية أصيلة أكمل مفهومها بشكل نهائي.

ولو أردنا طرح بعض الكتب البسيطة المفترض قراءتها لفهم نيتشه فسيكون الترتيب في رأيي قريب من التالي:

  1. نيتشه: مقدمة قصيرة جدًا – مايكل تانر
  2. أقدم لك نيتشه – لورانس جين
  3. رواية عندما بكى نيتشه – ارفين يالوم

بعدها يمكن الانطلاق لقراءة أعماله نفسها. هكذا تحدث زرادشت، ما وراء الخير والشر، العلم المرح، جينالوجيا الاخلاق، والبقيّة. مع الأخذ بعين الاعتبار أن تكون القراءة متأنية هادئة لا سريعة مُشتتة. صراحةً لا أفهم مبدأ القراءة السريعة، لا أفهم كيف بإمكان الإنسان أن يقرأ نصًا ويعيه دون أن يبطئ قليلًا ويركّز. أعتقد أن القراءة السريعة تصلح لقراءة فواتير الماء والكهرباء وايصالات الدفع فقط. غير ذلك لا تنفع لشيء. المعرفة الحقيقية تجلبها القراءة الهادئة والهضم والتفكير، ليس السرعة الببغائية لمجرد إنهاء الكتاب أو المقال! فمَن يجبرنا أساسًا على أن نقرأ شيئًا إن كنا فقط نريد انهاءه؟!

لا بد أيضًا مِن قول أنّ قراءة الفلسفة بشكل عام ونيتشه بشكل خاص تعتبر مِن أشد مصاقل الفكر ومغيرته. فقراءة الروايات والأدب تجلب العاطفة والإنسانية. قراءة الكتب العلمية تعرفك على النظريات وتقدم الكثير مِن المعلومات والتفاصيل. قراءة السير الذاتية للناجحين تعرفك على حياتهم وكيف صنعوها. أما قراءة الفلسفة فيمكن القول أّنها تساهم في تكبير وربما «تغيير كامل» للإطار والبارادايم الفكري الذي ننظر مِن خلاله. لذلك يمكننا تعريف الفلسفة كفن تسليط الضوء على غير المسلط والنظر للأمور مِن زاوية لا يراها الناس العاديون. لذلك وجب أن تحذر، أو على الأقل أن تعرف ما أنت مُقبل على فعله. لأنه كما قال نيتشه في اقتباسه: معظم الناس لا يحاولون الاقتراب مِن الحقيقة لأنهم لا يريدون رؤية أوهامهم تتحطم. فاحذر!

نعيد طرح تساؤل عنوان التدوينة، كيف نفهم نيتشه؟

نفهم نيتشه بالتفريق بين نيتشه المنتهي متمثلًا بأفكاره التي أكملها وبين نيتشه المتأخر في مسوداته التي لم تنشر إلا بعد وفاته، والتي احتوت على صورتهِ الخام غير المصقولة ولعله مِن هنا تم اقتناص مبادئه لخدمة أيدولوجيات معينة كالنازية مثلاً. بالإضافة للقراءة الشارحة عنه أكثر مِن القراءة له. ثم الإبحار في بحر أمواجه مع نبيه زرادشت ومطرقته التي لا تفارقه.