فادي عمروش
فادي عمروش

د

كيف تستجلب الحظ والصدفة؟

أعتقد ومن دون مقدِّمات أنَّ أي إغفال لدورِ العشوائية والحظ في مسيرة النَّجاح هو نقاش سفِسطَائِي، ولعلَّ كلّ ما في الأمر أنَّ الحظ عندما يأتي ولا نكون جاهزين له بالضرورة، وكي لا ندخل في جدالٍ لا طائل منه أشير إلى أن العشوائية التي أقصدها هي العوامل المجهولة التي لا نعرفها أو التي لا نستطيع التحكُّم بسير أحداثها.

تثير كلمة الحظ والصدفة توتراً غير مبرَّر لدى الكثير، و هنا كلمة حظ هي مجرد مصطلح يمكنك استبداله بالمرادف الذي تراه مناسباً مثل العامل المجهول، العامل الخفي، الصدفة، العشوائية، الفرصة، رمية النرد، التوفيق، التوفيق الإلهي، القدر، تدخُّل الطبيعة.. إلخ ممَّا تراه مناسباً ( فما لا تعرف سببه هو مجهول بشكل أو بآخر).

في بودكاست أبجورة الرائع للرائعة لبنى الخميس، تتحدث لبنى باتزان وموضوعية عن الصّدفة وكيف أنَّ لها سحراً هائلاً علينا حينَ حدوثها، إذ تشبِّهها بالبرق الذي يربط بين السماء والأرض في حدث دراميٍّ خاطف.

تلويحة العصا السِّحرية التي تسخر من كل خططنا المدروسة وجداولنا الدقيقة أو كأنها تلك الإشارة المشوشة التي تظهر على خط سير أحداث يومنا لتكتشف حينها أنَّ حياتك كانت تسير في إيقاعٍ ثابت ورتيب قبل أن تصادف شيء ما… تزور مكان ما… تلتقي شخص ما… فيعيد النبض إلى عالمك من جديد.

بودكاست أبجورة – الصدفة

يمكن تعريف الصّدفة على أنَّها الالتقاء المتزامن لواقعتين لا يوجد رابط بينهما، فعلى الرغم من رغبتنا الإنسانية الدفينة للاعتقاد بأن الأمر سحري بالكامل، يميلُ علماء النفس والإحصائيون إلى الاعتقاد أن العقل البشري مجبول على إيجاد روابط وأنماط في البيانات العشوائية، وهو ما يعرف في علم النفس باسم (الاستسقاط) لذلك عندما نقع على مصادفة ما يمارس دماغنا ببساطة تقفِّ الأنماط تلك التي ساعدتنا منذ فجر التاريخ على تخزين المعلومات، وبالتالي النجاة.

وفق ويكيبيديا يُعرَّف الاستسقاط على أنه محاولة ربط عدة أحداث أو أشياء منفصلة لا رابط يجمعها لتحميلها معنىً جديداً ليس من أصل أي من الأحداث أو الأشياء نفسها لإضفاء الصفة العلمية، أو المصداقية عليها، أو إعطائها أهمية تفوق حجمها الحقيقي. وقد صِيغ هذا المصطلح في عام 1958 من قبل كونراد كلاوس ، وهو طبيب أعصاب وطبيب نفساني ألماني، وقد عرّف كلاوس الاستسقاط بأنه “الصِلات التي لا مبرر لها” متبوعة “بمقاصد غير طبيعية لتجربة معينة”، لكنه تحضر لتمثيل ميل الإنسان إلى البحث عن أنماط في الطبيعة العشوائية بشكل عام مثل القمار، والظواهر الخارقة، والدين، وحتى في محاولات التأملات العلمية. في عام 2008، صاغ مايكل شيرمر في كتابه العقل المؤمن كلمة “النمطية” بأنها “ميل للعثور على أنماط ذات معانٍ في ضجيج لا معنى له”.

يمكن حتى أن يصل ذلك إلى حد المرض فقد صاغ كلاوس أيضاً  أثناء وصفه أعراض السكيزوفرينيا إذ اعتبر الاستسقاط من ضمن الأعراض الأولية لمرضى الفصام (السكيزوفرينيا) فمرضى الفصام يميلون إلى المبالغة في الاستسقاط.

وكما تقول لبنى الخميس في حلقتها عن الصدفة:

نملك العديد من التحيزات المعرفية التي تحجبنا عن رؤية الأسباب وراء الأحداث المتزامنة التي تصادفنا وتجعلنا نعتقد أن الشخص الذي قابلناه في المقهى أُرسل بفعل قوىً سحرية للقائنا وليس لأنه جاء مثل أي شخص آخر لشراء القهوة من مكان قريب من موعد اجتماعه القادم.

يكره الإحصائيون استخدام كلمة صدفة لأسبابهم العلمية، فمن منظور الاحصائيين لا توجد صدفة عشوائية تماماً فكل ما يحدث حولنا ليس إلا حوادث تخضع إلى قوانين الاحتمالات وبالرغم من قلة إمكانية وقوع أحداث متزامنة إلا أن الأمر ليس مستحيلاً.

تستشهد لبنى بمثال رائع لإثبات مدى شيوع الأحداث التي تبدو غير محتملة الوقوع وتساءلت عن عدد الأشخاص الذين يجب أن يكونوا في غرفة واحدة قبل أن ترتفع نسبة أن يطابق يوم ميلاد أحدهم يوم ميلادك بنسبة 50% ، والجواب رياضياً هو مجرد  ثلاثة وعشرين شخص.

ولكن مهما تكلمنا عن الرياضيات والاحتمالات، يبقى البشر منجذبين إلى فكرة أنَّ قوة خفية هي السبب والصدفة بتفسيرها العلمي هي أمر غير جذاب للاسف، وعوضاً عن ذلك يحب البشر خزعبلات قانون الجذب عوضاً عن فهم الاحتمالات.

لا ينفصل الحديث عن الحظ في هذا السياق، لعل الحظ هو الصدفة السارة لا أكثر.

على صعيد آخر، أحد تعريفات الحظ الجميلة أنّه نقطة التقاء الفرصة مع التحضير، فمن دون تحضير لا طائل من الفرصة أصلاً، ومن دون فتح باب للفرصة لن تأتي الفرصة أصلاً، لن تأتي فرصة للسفر خارجاً بمنحة دراسية إذا لم تقم بالتقديم مرَّات ومرَّات.

إذاً لدينا دوماً عاملين: الأول التحضير وهو متفق عليه، والثاني هو توظيف عامل مجهول لا أعرفه، تسريع احتمالية حدوث عامل خفي، استحضار الصدفة اذا صحّ الأمر، التوّكل وليس التواكل اذا أردت تلك المقاربة.

وهنا يأتي السؤال الذي يتغافل عنه كثير من المنظرين في هذا الموضوع وهو كيف يمكن أن أوظف الحظ في هذه المعادلة؟ كيف يمكنني توظيف العشوائية أو ما لا أعرف حدوثه في هذه المعادلة؟

تستعرض لبنى كيف يمكننا أن نجذب الصدفة إلى عالمنا مستشهدة بعالم الرياضيات ديفيد هانت وتذكر أربع استراتيجيات قادرة على أن فتح أبواب الحظ لنا:

أولاً: كن متيقظا فالصدفة تقع للأشخاص الذين يحدقون طويلاً في تفاصيل تموجات حياتهم اليومية.

ثانياً: جرب أن تخرج من دائرة راحتك، وتنشئ حواراً مع شخص لا تعرفه فإذا لم تقودك نفسك لجارك فمن المحتمل ألا تعرف أن كلاكما ولد في نفس المستشفى أو في ذات اليوم.

ثالثاً: ابحث عن المعنى سواءً كان سلسلة من الأرقام العشوائية أو أغنية راديو أو رحلة إلى مدينة مغمورة، اسأل نفسك إذا كان بإمكانك تحقيق معنى من التجربة.

رابعاً: دوّن مشاهدتك للرسائل اليومية التي تشعر أنها تخاطبك كلما لاحظت الصدف أكثر كلما زاد احتمال وقوعها.

بداية حين نفهم دور الحظ في هذا الموضوع يمكننا تغيير تفكيرنا، حين تعرف أنّ عملك لساعات أطول من غيرك في موضوع محدد لن يزيد دخلك بالضرورة. حين نعرف أنّ الحظ يلعب دوراً اكبر من المتوقع، فعليه نقوم بتغيير خياراتنا وقراراتنا بما يمكن أن يفتح الباب للحظ أن يلعب دوه وأن يتدخل.

لنتكلم بشكل عملي، على سبيل المثال إذا استثمرت في مشروع معين فليس لديك إلا احتمالين لا ثالث لها، إمَّا أن يخسر أو يربح، أما اذا استثمرت في 10 مشاريع بالتساوي فهناك احتمال أن يتدخل الحظ ويجعل مشروع منهم الحصان الرابح، ويجعلك تربح كثيراً.

بعبارة اخرى، يمكن أن يتدخل الحظ حين تستثمر في 10 مشاريع، بينما سيكون من الصعب تدخله إذا ما استثمرت في مشروع واحد فقط مهما كنت مخططاً ومحللاً عظيماً، ولعلّ الأمر واضح هنا أن الحظ لن يتدخل إذا لم تستثمر أصلاً في أي مشروع!!!

في تجربة جميلة جداً حاول باحثون معرفة أيهما أجدى توظيف الحظ أم لا وذلك في الأبحاث العلمية وأيهما يحقق أفضل العوائد البحثية، التخطيط واعتماد الخبرة السابقة أم فتح الباب للحظ أن يتدخل؟

ولتجربة ذلك درس الباحثون ثلاثة نماذج لتمويل الأبحاث العملية في أحدها يكون هنالك تمويل البحوث بالتساوي على جميع الباحثين ( لا أفضلية لباحث على آخر)، وفي الآخر يوزع فيها التمويل بشكل عشوائي على مجموعة معينة من الباحثين، وثالث يمنح فيها التمويل بشكل تفضيلي لمن كان أكثر نجاحاً في الماضي.

فما الاستراتيجية الأفضل بين هذه الثلاثة؟

سيظن الكثير أن الاستراتيجية الناجحة هي تلك التي تعتمد تفضيل من كان ناجحاً سابقاً، وزيادة التمويل للناجحين سابقاً وتقليله للمستجدين والتخطيط لذلك. لكن عملياً قد تبين أن الاستراتيجية التي توفر أفضل العوائد هي تقسيم التمويل بالتساوي بين جميع الباحثين.

نعم نعم، التمويل بالتساوي يعطي أفضل العوائد البحثية لأنّه في هذه الحالة يمكن أن يلعب الحظ مع أحدهم ويخرج بمشروع رائع، أو ورقة علمية مميزة، أو اكتشاف مميز دون أن نتنبأ به، والذي لا يمكننا توقعه أصلاً، لو كان بالإمكان توقعه لما سمِّي حظاً أصلاً.

وهكذا نجد أن حقيقة تحقيق اكتشاف مهمٍّ من قبل عالم بالصدفة لا يعني أنه من المرجح أن يقوم باكتشاف آخر مستقبلاً إذا ما أعطيناه تمويلاً مميزاً عن غيره، أما في حالة توزيع التمويل بالتساوي فهذا يعطي إمكانية أن يقوم عالم آخر بالصدفة باكتشاف جديد.

إذا كنت مشرفاً على 10 طلاب دكتوراة ووزعت عليهم التمويل بالتساوي فستربح أكثر مما إذا وزعت التمويل ليراعي الناجحين سابقاً فقط، لأنك بتوزيعك إياه بالتساوي تفتح الباب لحدوث صدفة باكتشاف من أحدهم لم تكن تنتظره منه أصلاً.

حين تفهم دور الصدفة ودور العشوائية سينعكس ذلك إيجاباً لمصلحتك، يمكنك تطبيق ذلك والاستفادة منه بشكل عملي، أمّا إذا وصلت إلى نهاية المقالة ومازلت مصراً أنَّ من جدَّ وجد وأنَّ من سار على الدرب وصل فقط، وأن بذل الجهد الاضافي هو معيار النجاح، فلن تطبق ذلك ولن تستفيد من الحظ.

حين تفهم دور الحظ، ستفكر جدياً في توسيع معارفك وشبكاتك لأنّه ممكن لأحد الأشخاص الجدد أن يفتح لك باباً غير موجود مسبقاً، يمكن أن تفكر بأن تقوم بتشغيل اللابتوب في الطائرة عسى أن يكون من بقربك مهتماً بما تقوم به، أن تُظهر اسم بحثك الذي تعمل عليه في مؤتمر عسى جذب صدفة لشخص يعمل عليه.. الحظ عشوائي ولكنه في النهاية لعبة احتمالات.

اتركك الآن أن تفكر باسقاط التجربة السابقة على الاستثمار أو التعليم أو ترك خيارات لأولادك في الجامعة، أو كيفية فتح الباب في حياتك للتسبب بأحداث يحالفك الحظ بها بطريقة عشوائية..

إذا كان ثمَّة نصيحة لي لك في نهاية المطاف هي دع الحظ يتدخل.. إنّها لعبة احتمالات في نهاية المطاف..