أحمد وفدي الديب
أحمد وفدي الديب

د

الفنان العظيم يسرق!

يقول بيكاسو: الفنان الجيد يستعير والفنان العظيم يسرق!

وفي عبارة مماثلة يقول الشاعر الإنجليزي ت.س. إليوت صاحب قصيدة الأرض اليباب: الشاعر المبتدئ يُحاكي.. والشاعر الناضج يسرق!

ورد كذلك على لسان الموسيقي إيجور سترافينسكي العبارة نفسها تقريباً: الملحن المتواضع يقترض.. والعظيم يسرق!

عندما قرأت ما سبق أول مرة شعرت بالريبة والإستنكار، السرقة تعبير تلازمه إدانة، أي عظمة تكمن في السرقة الفنية؟ كأي قارئ/كاتب في مراهقته الأدبية ظننت وبحمق أن الإبداع الفني يكمن في إبتكار فكرة، حكاية أو قصة جديدة، أصلية وغير مسبوقة.

بالطبع ومما لا شك فيه أنه بوسعنا تعريف عملية الإبداع على أنها محاولة أو سعي للإتيان بجديد، لكن ومع الوقت خاب ظني وأدركت خطأ إعتقادي، فهمت أن حكايات العالم إنتهت في الليلة الواحدة بعد الألف، استهلكت كل القصص بما فيه الكفاية ولم يعد بالإمكان سوى إعادة سردها بطريقة جديدة، النظر لها من زاوية أخرى، الذهاب بها أو فيها إلى نقطة لم يصل لها أحد ممن سبقونا، هذا هو الإتيان بجديد الممكن والوحيد.

فهمت لاحقاً ما ترمي له عبارة بيكاسو، إليوت وسترافينسكي، عندما نستعير شيئا ما من أحد، نوقع سلفاً عقداً ضمنياً يفضي بمحدودية التصرف فيه، لأننا لسنا مُلاكه الحقيقين، نُلزَم بوعد إرجاعه لصاحبه على حالته الأولى بلا أي تشويه، أما في حالة السرقة فالأمر مختلف، تتحول ملكية المسروق من مالكه الأصلي إلينا مباشرة، مع حرية التصرف التامة بلا قيود. كامتداد لإستعارة حكايات ألف ليلة وليلة في تشبيهي السابق، أجدها فرصة لخلق مقاربة مثالية من نفس البئر.

في الليلة ثلاثمائة وواحد وخمسون وكما جرت العادة تروي شهرزاد حكاية جديدة لجلادها شهريار آملة في أن تُثلم سكينه، حكاية بعنوان إفلاس رجل من بغداد، وكما في عنوانها تروي لنا حكاية إفلاس رجل مجهول الإسم من بغداد ولا نعرف عنه سوى أنه كان ثري ونفذ ماله بلا إعلان أو تلميح لكيفية حدوث ذلك، تراوده رؤيا غريبة في منامه، قائلا يقول له: رزقك بمصر فاتبعه.

وبإيجاز، يتجه الحالم إلى مصر ويمر بسلسلة من الحوادث تنتهي به إلى السجن، وفي النهاية يسأله الوالي عن سبب قدومه إلى مصر، وحين يطلعه على حلمه، يضحك الوالي ويخبره بأنه قد رأه أيضاً في منامه، ويتضح لنا أن الكنز مدفون في فناء بيت البغدادي. تلك النادرة التي روتها شهرزاد تأجيلا لموتها، سرقها الأرجنتيني صانع المتاهات خورخي لويس بورخيس، فككها وأبقى على الثيمة الرئيسية؛ ثيمة البحث في البعيد عن كنز كان تحت أقدامنا من البداية، ونشرها في إحدى مؤلفاته بأسم حكاية الحالمين، يرد موطن بطل الحكاية إلى القاهرة بدلا من بغداد، يضع له أسما هو محمد المغربي، يضيف إلى الرؤيا تفاصيل أيضا لم يرد ذكرها في النص الأصلي كأن يجعل القائل في المنام مبتلاً تخرج من فمه قطعة نقود، ويدعوه للتوجه إلى أصفهان فارس، وتستمر الحكاية بقليل من الحذف والإضافة بقلم بورخيس الذي تصرف فيها بحرية تامة وبدم بارد مع تحقق المراد نفسه في النهاية؛ العثور على الكنز في نقطة الانطلاق الأولى.

بعد عامين من موت بورخيس، يعثر سارق آخر على الحكاية، الروائي البرازيلي باولو كويلو، والذي يلجأ إلى الثيمة نفسها ويحولها هذه المرة إلى رواية كاملة حملت اسم الخيميائي. لكن ماذا لو كانت حكاية إفلاس رجل من بغداد قصة حقيقية حدثت بالفعل؟ هذه الفرضية تضعنا أمام سؤال هام طرحه سلمان رشدي بشكل غير مباشر على مدار أحداث روايته “العار”: هل التاريخ ملك لأصحابه؟ حتى ولو افترضنا أن التاريخ نُقل إلينا بصورة أقرب إلى الحقيقة، فهل يحق لنا سرقته، إمتلاكه، والتصرف فيه بحرية في العمل الفني؟

في إعتقادي، العمل الفني هو عالم موازي لعالمنا، قابل لكل الاحتمالات واردة الحدوث في واقعنا والتي لم تحدث، وعلى الفنان أن يختار الاحتمالات التي تجعل عمله بأفضل صورة ممكنة، بلا أي إلتزام بتقديم الحقيقة. نعم، حتى فيما يخص التاريخ الفنان المتواضع يستعير، والفنان العظيم يسرق. حتى أننا نجد في تكرار العبارة نفسها على لسان الفنانون الثلاثة (سترافينسكي، بيكاسو وإليوت) سرقة واضحة، كل منهم سرقها، امتلكها، وتصرف فيها بما يناسبه، حتى ضاع مالكها الحقيقي.

لقد عمل غروساك أميناً للمكتبة الوطنية في الأرجنتين قبل بورخيس، وأصيب بالعمى، وبعدها بسنوات خلفه بورخيس أمينا للمكتبة ذاتها، ولاقى المصير نفسه؛ أصيب بالعمى، واختلط عليه الزمان، المكان والشخصية، ولم يعد يعرف أيا منهما بورخيس وأيا منهما غروساك، وفي قصيدة الهبات يتساءل حائرا: من منهما يكتب القصيدة الآن؟!

“من منا نحن الاثنين يكتب هذه الأبيات

عن أنا متعددة وكآبة واحدة

وماذا تهم الكلمة التي تمثل أسمي

إذا كانت اللعنة التي حلت بنا واحدة؟”