نوف العوفي
نوف العوفي

د

فردوس الوحيدين.. مهوسي الإسطوانات الموسيقيّة!

‏”لا تنفق المال على العلاج. 

‏أنفقه في متجر تسجيلات”

وأنت تعبر الازقة والشوارع الرئيسية في المدن الكبرى كـ نيويورك، وبرلين، وطوكيو… ستشاهد العديد من متاجر بيع الاسطوانات الموسيقية المتراصة بجانب محلات بيع البقالة، أو الحلاق، أو المقاهي؛ كصورة مكتملة للمُدن المدنية المشاكسة أو كجزء حضاري جذاب لمحبي الموسيقى..

فمثل تلك المتاجر الخاصة ليست غريبة على مجتمعات تعد الموسيقى جزءً هاماً من تاريخها الثقافي الذي يعكس أذواق مرتاديها من مختلف الأعمار والمهووسين في معظم الأحيان. لكن الجميل في الأمر أن معظم تلك المتاجر في العديد من الدول الأوربية والأمريكية، متاحة على مدار الساعة  تحت شعار “الموسيقى للجميع”..

إنها الصيدليات الخاصة لعشاق الموسيقى، والمكان الأمثل للغارقين في شغف اقتناء موسيقاهم وأغنياتهم المفضلة من خلال الـ  vinyl؛ ذلك الجسم  الدائري الصلب الذي يلمسه محبي الموسيقى بالكثير من الحذر والحنان حتى لا يخدشوا قوة صوته!

فعند مرورك العابر أو الفضولي بجانب أحدى تلك المتاجر المتناثرة ستشاهد العديد من البشر من مختلف الأعمار يقفون بتأمل مبهر أمام العشرات من أرفف الاسطوانات يضعون سماعات الرأس بإجلال وانسجام للاستماع إلى موسيقاهم المفضلة..

تبدو صورة أصيلة، ومدهشة تعكس وفاء البشر تجاه الأشياء القديمة.. فبرغم من حدوث ثورة تقنية في عالم التكنولوجيا من خلال الحصول على أي نوع من الموسيقى في غضون دقائق، مازال هناك آلافٌ من البشر يرتادون تلك المتاجر بحبٍ كبير..

يرتحلون.. يساومون الباعة.. يتحدثون بشغف عن تاريخ وتفاصيل الموسيقى المختلفة.. تبدو تلك المتاجر كمتحف حي لكل أنواع الموسيقى، متجر واحد يصدح منه موسيقى مختلفة؛ ما بين موسيقى بيتهوفن وموزارت.. موسيقى الثورة والكفاح.. الجاز، والسول، والبلوز، وحتى موسيقى البوب الكوري، و الروك الصاخب، ستجدهما في أبهى صور الالتقاء..

فردوس الوحيدين

قبل عدة شهور عثرت على مقالة صحفية في إحدى الصحف الكولومبية بعنوان “الوحيدين في المدن”. طرحت المقالة صور عدة إلتقطها الكاتب من خلال جولة فضولية في أروقة المتاحف، والمكتبات، ومتاجر بيع الاسطوانات الموسيقية..

يقول الكاتب: “خلف تلك الجدران المزينة باللوحات، ورفوف الكتب المتراصة، ومتاجر بيع الاسطوانات الموسيقية.. خلف شوارع المدن، ستجد أشخاصاً وحيدين سعداء متأملين.. هم ليسوا وحيدين بل هاربين منعزلين لفترة قصيرة، ومن ثم سيعودون إلى حياتهم الصاخبة.”

فلا يمكن للمرء أن يذهب إلى مثل تلك الأماكن الرائعة برفقة أصدقاء مزعجين أو صديقة غاضبة على الدوام، إن مثل تلك الأماكن يجب أن يُطلق عليها “Paraíso de los solitarios” فردوس الوحيدين الذين يؤمنون بأن الوحدة طقس مثالي للقيام بزيارة إلى إحدى متاجر بيع الاسطوانات الموسيقية المستعملة أو العصرية كلياً في مدينة طوكيو مثلاً!

لماذا طوكيو؟! لأنها تعتبر الوجهة الأولى لمحبي اقتناء الاسطوانات الموسيقية النادرة، حيث تنتشر في أزقة مدينة  طوكيو مئات المتاجر الملونة منذ الخمسينات وبأسعار مناسبة، أما في شوارعها الفارهة فهناك متاجر، ومقاهي لامعة يستطيع محبي الموسيقى احتساء القهوة والاستماع للعديد من الاسطوانات الموسيقية بحسب اختيارهم.

يُعد هذا النوع من المتاجر أو المقاهي، ثورة جديدة اجتاحت شوارع لوس انجلوس ونيويورك منذ نهاية التسعينات، يقوم محبي الموسيقى بزيارتها مبكراً قبل ذهابهم إلى أعمالهم لاحتساء القهوة برفقة اختيار اسطوانة موسيقاهم المفضلة من الرفوف المخصصة، ومن ثم اقتنائها أو وضعها في رف المفضلات في حال حازت على إعجاب الزوار الآخرين.

حانة ميترونوم.. “قبلة عشاق موسيقى الجاز”  

تصدح من حانة “ميترونوم” في مدينة كولونيا الألمانية موسيقى الجاز الحديثة، والكلاسيكية وهناك في مكان آخر حانة “قونجا” في مدينة سيول الكورية تعد المكان الأمثل لمحبي موسيقى الجاز بطابعها الأصيل التقليدي، حيث تمثل قائمة موسيقى الجاز منذ الأربعينات جزءً لا يتجزأ من قائمة الزبائن بجانب تقديم قائمة الطعام.

يكسو حانة ميترونوم جو من الشغف والولع بالاسطوانات الموسيقية من خلال جدرانها المزينة بالاسطوانات القديمة، وصور أشهر عازفي الجاز. خلف الحانة توجد خزانة كبيرة مليئة باسطوانات موسيقى الجاز، مرتبة حسب أهم الآلات الموسيقية وليس حسب أسماء الفنانين.

يقول مدير الحانة إن الخزانة تحتوي على ما لا يقل عن 2000 إسطوانة، وهناك بعض الاسطوانات المخزنة في المطبخ ولا يعرف مايك عدد الأسطوانات التي بمنزله، فهذه الأشياء لا يمكن عدها، كما يقول، ولكنه يعرف بالضبط عدد أقراص السي دي الموجودة بمنزله “فقط اثنين”، أهداه إياهما أناس نيتهم حسنة، لا يعرفون أنه لا يمتلك جهاز تشغيل السي دي ومثل هذه الأقراص لا يسمح لها، كما يقول، بالدخول إلى بيته “لأن الأقراص المدمجة عديمة الروح”.

عالم المهووسين المرموق

تاريخ البدء:

في آواخر القرن التاسع عشر، بعد أقل من مرور عقدين على اختراع توماس إديسون  للجرامافون في عام 1877 بدأ الأثرياء العرب والمصريين على وجه التحديد التهافت على سوق  التجار القادمين من أمريكا وانجلترا رغبةً في اقتناء تلك الآلة العجيبة التي يكتمل عملها الفني العظيم بعد وضع أسطوانة دائرية تصنع من الشمع آنذاك..

في بداية الأمر شكلت تلك الاسطوانات ثورة عالمية في عالم الفن والموسيقى عالم من التباهي، واقامة السهرات الليلية الحالمة على أنغام صوت أم كلثوم، وفريد الأطرش، وليالي الأنس في فيينا وأنحاء مصر والشام والعراق.. لم يتوقف الأمر وبات محبي تلك الاسطوانات يتكاثرون، يمتلك البعض منهم نسخ مختلفة لذات الألبوم أو لذات الموسيقى بأغلفة وإصدارات مختلفة أنه الهوس يا سادة!

الوضع أشبه باقتناء قطع فنية، أو لوحات متعددة من كل حضارة، وبلد هذا النوع من الهوس كان سبباً كافياً للإبحار في عالم مليء بالغرائب المدهشة.  

عندما قررت الكتابة عن عالم الاسطوانات الموسيقية لم يكن مجرد فضول بل لأنني أجد أي شيء متطرف في عالم الموسيقى يستحق التأمل، والكتابة فبرغم من هيمنة المتاجر الالكترونية في بيع كل شيء مازال هناك نوع خاص من الناس وهم عشاق اقتناء أسطوانات الفينيل الموسيقية، يفضلون السفر والتجول في المتاجر، والأسواق القديمة المتخصصة..

لم يغريهم ما تفعله أمازون وغيرها من نقاط البيع الالكترونية من عروض شهرية لبيع عدة أسطوانات موسيقية بسعر مغري جداً، أنهم يتجاهلونها ويمضون قدماً نحو متعتهم  الخاصة ليس في رغبة الاقتناء وحسب، بل الحوار مع الباعة المخضرمين في عالم بيع الاسطوانات، قد يحصل أولئك المهوسين على اسطوانة أصلية تخص فنانهم المفضل أو اسطوانة تحمل توقيعاً مبجلاً كل تلك التكهنات تدفعهم للركض بين الأمكنة، وقضاء يوم ممتع في الاستماع لعدد كبير من الاسطوانات والعثور على أفضل الأسعار والجودة، يقول أحدهم:

 “إن اقتناء اسطوانة جديدة ذات طابع كلاسيكي تحمل صورة فناني المفضل تعد أفضل هدية أقدمها لنفسي أثناء السفر”.

لا أعرف صفة محددة يمكن أن نصنف بها أولئك المهووسين بجمع أكبر عدد من الاسطوانات الموسيقية، هل هو العشق، أم رغبة في التباهي والتميز بشيء يشبههم فهم  ليسوا أشخاصاً فارغين أو تافهون بل ناجحين جداً ومنهمكين في روتين أيامهم بشكل متزن، لكنهم يجدون هذا النوع من الشغف كنوع من جنونهم الخاص الذي يفتخرون به على الدوام من خلال استعراض مكتباتهم الموسيقية بأشكال وديكورات مختلفة عبر مواقع التواصل الاجتماعي. 

لقد وقعت تحت تأثير الدهشة والسحر أثناء رحلة التنقيب والبحث  فوجدت صفحات تعرض صور ومعلومات عن أشخاص قاموا بتخصيص سقيفة بيوتهم، أو قاموا بتصميم مكتبات موسيقية ذات مساحات شاسعة مجهزة برفوف خشبية، أو معدنية قادرة على تحمل أعداد هائلة من الاسطوانات القديمة واستقبال ضيوف جدد بعد جولة من الرحلات حول العالم.

وأنا أشاهد الصور والمقالات شعرت وكأنه عمل فطري مقدس تجاه ولعهم الخاص والمجنون رأيت عدد من الأسواق العصرية والشعبية حول العالم المليئة بالتصنيفات والأذواق، والتسعيرات قلت لنفسي أوه حسنًا أنها أسواق المفعمين بالشغف فلا يعرف الكثير من الأشخاص العاديين ماذا يعني أن تجوب العالم بحثاً عن اسطواناتك الموسيقية المفضلة  في أكثر المتاجر تميزاً وأقلها تكلفة!

لا مكان لمبدأ التقليلية في عالم الاسطوانات الموسيقية! 

يعيش الموزع الموسيقى الالماني مارك جوان منذ سنوات على مبدأ الـ التقليلية من خلال اقتناء الملابس، والأثاث وحتى استهلاك الطعم، يعيش في شقته الصغيرة في وسط العاصمة برلين تبدو شقة جميلة ذات أثاث خشبي عصري وبسيط جداً يمكن لأي زائر أن يعد عدد أثاثه المحدود، لكن هذا المبدأ يتوقف عند شغف اقتناء اسطوانات جديدة..

إنه يعيش في بيت شبه خالي من الأثاث والكماليات التي يتهافت البشر عادةً على شرائها، لكن منزل مارك يعد منزلاً متواضعاً ما عدا السقيفة المجهزة بأجهزة صوتية باهظة الثمن متعددة الوظائف وعدد من مشغلات الاسطوانات الموسيقية التي يحتفي بالاحتفاظ والتباهي بها، إضافة لرفوف متراصة تضم أكثر من ٢٠٠٠ اسطوانة موسيقية. 

مجموعات الأسطوانات المجنونة

غادر المصور إيلون لندن في عام 2008 ليجرب حظه في نيويورك. لقد كان أسوأ وقت لتجربة حظه.. كانت بداية الركود، لم يكن هناك وظائف يمكن العثور عليها، لذلك وجد نفسه في متاجر التسجيلات، أنفق أمواله على شراء اسطوانات موسيقية ولا شيء آخر..

يقول: كل هذا الوقت الذي يقضيه في التسجيلات أعطاه  فكرة القيام بمشروع عن الأشخاص الذين يجمعونها حول العالم، بعد لقاء جامع التسجيلات الإفريقية والدي جي فرانك جوسنر في بروكلين، تعرّف على جامعين آخرين في جميع أنحاء المدينة وبدأ في نشر صور وقصص عنهم على مدونته، Dust and Grooves.

“أعتقد أنه من الرائع تصوير هواة جمع التسجيلات. أنا نفسي جامع”. قام بالذهاب إلى إيطاليا لتصوير بيت الإيطالي  أليساندرو بينيديتي الذي يحمل الرقم القياسي العالمي في موسوعة غينيس لأكبر مجموعة من تسجيلات الفينيل الملونة. بمرور الوقت، توسع نصف قطر مشروع باز خارج نيويورك ليشمل الدول المجاورة، وفي بعض الأحيان كان يقوم بالتوقف في أجزاء من أوروبا فقط حتى يتمكن من تصوير جامعي الاسطوانات هناك ومن ثم قام  بنشر كتابًا بعنوان Dust & Grooves: Adventures in Record Collecting، والذي يسلط الضوء على أكثر من 130 جامعًا قابلهم حتى الآن.

يقوم باز دائمًا بزيارة هواة الجمع من تلقاء نفسه، ولا يستخدم إضاءة إضافية. “أنا فقط والكاميرا وهذا كل شيء. إنه مثل صديقين يتسكعان وهما يستمعان إلى التسجيلات ثم ألتقط بعض الصور. إنه يبني لحظة حميمة للغاية بينه وبين موضوعاته. عندما يتحدثون عن الموسيقى يفقدون كل موانهعم “إنهم يستمتعون بها حقًا”.

أصدقاء الشغف

اعتدت منذ سنوات طويلة على القفز بين المألوف ونقيضه.. استمع لعباقرة الغناء العربي، ومن ثم الاستعانة بخيالي للذهاب إلى حانات نيويورك القديمة للاستماع لموسيقى كارلتون، وارمسنتغ، ومن ثم السفر عبر القارة اللاتينية والرقص على نغمات موسيقى السون، السالسا، والبوسا نوفا البرازيلية، ولا أنسى حالة الوقوع في عشق موسيقى الفلامنكو النابعة من قلب باكو دي لوكا..

فحينما ينصهر البشر في شغفهم تبدأ رحلة البحث عن أصغر التفاصيل، لقد أثار المهووسين شهيتي في اقتناء اسطوانات موسيقى العازفين المفضلين، أصبحت حقاً أود الحصول على أسطوانة موسيقية لـ John Coltrane بدلاً من المسكنات.

ولحسن الحظ بأنه لدي أصدقاء يحسنون تذكر أحاديثي المتواصلة تجاه عالم الموسيقى، لذا قامت صديقتي سارة التي تعيش في مدينة مونتريال بمشاركتي صور للعديد من متاجر بيع الاسطوانات الموسيقية المستعملة، تقول: أن مشاهدة هذا النوع من المتاجر يذكرني بك، أعتقد أنك سوف تصبحين جارة مميزه لمتجر  Sound Central Record Store، الذي يقع بجانب بيتي فهو ليس مجرد متجر تسجيلات مستعملة مثالي للغاية بل يقوم أيضاً ببيع الاقراص المدمجة المستعملة، ومجموعة مختارة من الكتب والمجلات وأقراص DVD والألعاب القابلة للتحصيل، بالإضافة إلى تقديم القهوة أثناء فترة الصباح، وفي المساء يجب أن أن لا تفوتي فرصة تغيّر اضاءة المتجر كي تتناسب مع الجو الموسيقى الساحر..

انتظر زيارتك كي نحتسي القهوة على أنغام موسيقى الجاز أو الفلامنكو التي تحبينها..