عبدالرحمن عرفة
عبدالرحمن عرفة

د

وداعًا يا بائع الحلوى

المثال الشهير المتداول، لو أننا أتينا بطفل صغير غير واعي بنتائج الأمور وعرضنا عليه بائع حلوى يدعوه للأكل، يحمل معه الكثير من السكاكر الملونة اللذيذة المُحببة للحواس، مع رجل آخر يعمل كطبيب ويحمل معه ورقة مدوّنًا عليها أضرار تناول السكاكر ومخاطرها، فإن هذا الطفل سيضرب بعرض الحائط الطبيب، وسيتجه دومًا نحو بائع الحلوى.

لربما التحذير الموجودة على عُلب السجائر شبيه بهذا المثال، فعبارة أن التدخين المُسبب للسرطان لم تمنع أحدًا من التدخين يومًا.

لو أخذنا مثال الطبيب وبائع الحلوى وعممناه على طريقة تفكير الإنسان الذي اعتمدت البيولوجيا الحديثة على تسميته بالإنسان «العاقل» فإن النتيجة ستكون واحدة بغض النظر عن المُستهدف إن كان طفلًا أو يافعًا أو حتى شيخًا كبيرًا طاعنًا في السن. النتيجة تقول أن الإنسان «العاقل» هو كائن عاطفي غير عقلاني مُنحاز في الغالب نحو ما يشتهيه ويرغبه ويريد حدوثه.

مشكلة الإنسان «العاقل» أنه يتعامل مع الكون والحياة وعلاقاته الاجتماعية من منظور الطفل الذي يرغب بأكل الحلوى وليس من منظور الناضج الذي يريد أن يسمع كلام الطبيب، لا سيما أنه سيحدثه عن ضرر الأشياء اللذيذة التي يقوم بها.

لعلَ هذا ما أشار إليه سيغموند فرويد عندما تحدث عن ثلاثة خدوش أصابت نرجسية الجنس البشري خلال مسيرة تطوّره. فنفي مركزية الأرض أوحش الإنسان، ومن ثم نفي أن وعيه هو المتحكم الأوّل جعله يخاف أكثر مما يضمر في لا وعيه، ومن ثم نفي انفصاله عن شجرة الحياة جعله كائنًا عاديًا من ضمن كائنات أخرى عديدة على سطح هذا الكوكب.

فرغم أن اللذّة سيجنيها الطفل سواءً كان طفلًا أم بالغًا من عند بائع الحلوى الذي يبيعه الوهم، إلا أن الحقائق دائمًا ما تكون عند الطبيب، ودائمًا ما تكون غير لذيذة، وغير ملوّنه، وصادمة، وعكس ما تشتهيها الأنفس.

مُشكلة الإنسان «العاقل» أنه يتعامل مع الحقائق وكأنه سيضحك عندما يعرفها، فعندما يصل إلى واحدة منها كأنه سيقول: ههههههههه لقد كنت أعرفها! يا صديقي الحقيقة ليست نكتة، إذا لم يُكسر بداخلك شيء ويتغيّر فغالبًا أنت لست أمام أمر مفيد، هذه ليست حقائق، هذه أشياء ضحلة فقط.

ألا تذكر ما قاله كافكا! يجب علينا قراءة الكتب التي تدمينا وتغرس خناجرها فينا، فإن كان ما نقرأه لا يوقظنا من غفلتنا فما قيمة ما نقرأه! هذا ما قاله كافكا، ولعل كافكا تعب من كل هذا فانتحر وأراح نفسه!

ما فائدة أن تقرأ كتاب يؤكّد وجهة نظرك المُسبقة؟ ما القيمة التي ستجنيها من مُطالعة شيء يقول لك أنت الصحيح اطمئن؟

أنت هنا لست طالب للمعرفة، أنت هنا مجرد إنسان يريد أن يشبع غرور نفسه بالبحث عن المعرفة الزائفة دون أن يدري أن إشباعه لمعرفته هنا لا يشبه إلا ذاك الباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغ! تُريد أن تنمي معرفة من خلال قراءة ما يوافقك فقط! أي معرفة هذه! أي صدق في المنهج هنا!

هنا لا ترى إلا الصورة من وجهة نظرك المحدودة، من وجهة نظر ثقب الباب، ليس من وجهة نظر بانورامية واسعة تريك المشهد بكامله!

يُقال أن الذين يمدحون ويقرأون ما يوافقهم وتمليه عليهم أيدولوجياتهم المُسبقة هم نرجسيون متحامقين، فمدحهم لهذا لا يعني سوى أنهم يمدحون ذوقهم الخاص. ما الفائدة من قراءة شيء تعرف أنه يوافقك مُسبقًا يا رجل؟ ما فائدة فعل القراءة كله إن لم يكن هدفه توسيع الأفق واستكشاف مناطق معرفية أخرى؟

يقول جوردان بيترسون طبيب النفس الكندي الشهير: إنّ الفرق بين مرحلة الطفولة والنضج هو خط صغير تتكسر فيه الأحلام، خط صغير تدرك فيه أنك لن تصبح شيئًا. يقول الطفل أنه سيصبح طيارًا ورائدًا للفضاء عندما يكبر. يقول أنه سيبني قصرًا من ذهب، ستكون له حدائق ضخمة. يخبرنا أنه سيسبح في المحيط مع الحيتان، أنه سيحلق بين الغيوم، وأنه سيفعل كل شيء لطالما حلمَ به.

لكن عندما يكبر، أو بمعنى أدق عندما ينضج بغض النظر عن عمره حينها، سيدرك أن الخيارات لديه محدودة، وأن مهنة الطب ستحقق له دخلًا أعلى من الطيار، وأن رواد الفضاء كذبة فهم لم يطؤوا القمر قط، وأن قصور الذهب صعبة المنال، وأن الغيوم التي لطالما حلم بالتحليق معها قد بخّرها الاحتباس الحراري الذي يغلي به حقد وكراهية هذا الكوكب.

في هذه النقطة تحديدًا ينضج ذلك الطفل، اللحظة التي لن يصبح بها كل الأشياء التي أرداها، لن يصبح سوبرمانًا الذي لطالما رآه على الشاشات، لن تصبح ريمي التي لطالما كانت تغني بصوتها الحنون. النضوج يأتي حاملًا معه قلة الخيارات، القلة التي تحددها البيئة وما فيها من عوامل اجتماعية وثقافية قد تختلف من مكان لآخر.

مُشكلة الإنسان «العاقل» يا صديقي أنه غير عاقل، أنه يعتقد بسذاجة أن هذا الكون لن ينتهي إلا عندما ستتحقق جميع أحلامه، وأنه سيخرج منه منتصرًا مزهوًا، بعدها سيطوي الكون نفسه بسعادة بما أنه قد حقق مبتغاه، ولربما سيرافق ذلك موسيقا تصويرية ملحمية تعزز مجده أيضًا.

هناك شعرة بسيطة تفصل ما بين الأمل، وما بين الوهم. أن تعيش على أمل حدوث ما تريد شيء جميل، لكن أن تكون داخلة فقاعة وهم لما تُريد فهو أمر سلبي. غالبًا ما يكون هذا حال العاجزين، حال الذين يعولون على الكون الذي لن ينتهي حتى يحققون ما يصبون إليه.

لربما هذا هو الجرح الرابع والأخير الذي أصاب نرجسية البشر الفرويدية. الجرح الذي أطلق عليه محمود درويش لقب «لدغة الأمل الجريح» اللدغة التي تلسعك لتعتقد أن الحياة تنتظرك كي تصل حتى تنتهي، في حين أنها تنتهي متى أرادت دون أن تنتظر أحدًا.

وفقًا للمسافات الفلكية الهائلة المحيطة بنا، فإن الإنسان وكوكبه مجرد حبة رمال ضمن مجرة تحوي مليارات حبات الرمال الأخرى. في حين أن هذه المجرة تعتبر هي نفسها حبة رمل قزمة هامشية في كون يزخر بعدد مُرعب من المجرات الأخرى. يُقال أنه عند نهاية نظامنا الشمسي سيكون أشبه برحلة ما إلى شاطئ تكون فيه حبة رمل منه قد اختفت، هل أحد ما سيستشعر بوجود ذلك؟

تأمّل هذا المشهد من منظور بانورامي يتجه للطبيب، ليسَ طفل غير ناضج محدود يُريد أن يشبع نفسه بالحلوى.

هكذا هي الحياة تمامًا، إن أردت الحقائق جادًا يجب أن تصدّق الطبيب، إن أردت أن تشبع نفسك بالملذات الواهمة فاتجه نحو بائع الحلوى، وكجنس بشري اتفقت البيولوجيا على تسميته بالإنسان «العاقل» فإن النتيجة دائمًا ستكون راجحة للخيار الغير عاقل، لأنه وفقًا لقانون الطبيعة فإن الأكثر تكيفًا سينجو بغض النظر عن مدى أصحيّته.

ستطوى السنون سريعًا وسيسحب هذا الكون على أحلام الكثيرين ذيول النسيان، سينتهي إن حققت أم لم تحقق ما أردته، أصبحت طيارًا أم لم تصبح، حلقت بين الغيوم أم غرت في أعماق الأرض، سينتهي رغمًا عن كل شيء.

دع عنك أحلام الخائبين، أحلام الذي يعولون على تداخلات تأتي من أجلهم وأوقات بدل ضائعة تنتظرهم لتحقيق ما لم يحققوه عندما كانوا ضمن الوقت الفعلي، دع عنك كل هؤلاء، وقم لما تريد بنفسك. لن ينتظرك شيء. كل شيء سينتهي رغمًا عنك، حياتك نفسها لن تنتظرك، فكل يوم يمضي تطوى صفحة منها. فلا تتمنى مرور الأيام وتنسى أنها عمرك!

وتذكّر دائمًا أن بائع الحلوى سيكون رائعًا، لطالما كنت تحب أن تذهب إليه، لكن ليس هو الصحيح، ليسَ هو الحقيقة، نعم ما لديه لذيذ ويرضي الحواس، لكنه قطعًا ليس هو الحقيقي. وهذه هي الشعرة الصغيرة التي تفصل بين العاقل وغير العاقل.