نورة .
نورة .

د

من الرف الأسفل من المكتبة

كان على الرف الأسفل من المكتبة، كتاب له لونٌ أحمرٌ قاتم، وصورة عملاقة تأخذُ واجهةَ الكتاب، دائمًا ما كنتُ أتجنب الكتب التي أغلفتها صورًا ذاتية لأصحابها، أعتقد أنها تستفزني بعض الشيء، و أنني أحيانًا أحكم على الكتاب من غلافه.

نعم أنا كذلك أحكم على الكتب التي أغلفتها عبارة عن صور ذاتية بالنفور منها، وكان هذا خطئي الذي أعترف به علنًا؛ لأن الكتب التي من هذا النوع ليس– بالضرورة- أن تكون سيئة ورديئة، والدليل كان هذا الكتاب.

كان الغلاف عِبارة عن صورة لعائلة من سبعة أفراد، في وسط هذه الصورة أب يحمل طفل صغير، لا يكاد عمره يتجاوز الثامنة، كان هذا الطفل هو الأديب الراحل جلال أمين.

قبل قراءة الكتاب شرعتُ أهرول بحثًا عن من هو جلال أمين، وخجلتُ من نفسي، ومن جهليّ به، حينما انتهيت من سيرته الذاتية الرائعة، صاحبة الصورة العملاقة، واللون الأحمر القاتم”ماذا علمتني الحياة؟”.

بدأتُ في قراءة المقدمة، وكنتُ أقرأ باسترسال  حتى توقفت عند الفقرات الأخيرة، أو إن صح التعبير “علقتُ” في تلك الفقرات.

 يقول جلال أمين: “منذ سنوات كثيرة رأيت فيلمًا بولنديًا صامتًا لا يزيد طوله عن عشر دقائق، ظلت قصته تعود إلى ذهني من وقت لآخر، وعلى الأخص كلما رأيت أحدًا من أهلي أو معارفي يصادف في حياته ما لا قِبل له برده أو التحكم فيه.

تبدأ القصة البسيطة بمنظر بحر واسع، يخرج منه رجلان يرتديان ملابسهما الكاملة، ويحملان معًا، كل منهما في طرف، دولابًا عتيقًا ضخمًا، يتكون من ثلاث ضلف، وعلى ضلفته الوسطى مرآة كبيرة، يسير الرجلان في اتجاه الشاطئ وهما يحملان هذا الدولاب بمشقة كبيرة، حتى يصلا إلى البر في حالة إعياء شديد، ثم يبدآن في التجول في أنحاء المدينة وهما لا يزالان يحملان الدولاب، فإذا أرادا ركوب الترام حاولا صعود السلم بالدولاب وسط الركاب وصيحات الاحتجاج، وإذا أصابهما الجوع وأرادا دخول مطعم بالدولاب فيطردهما صاحب المكان.

لا يصور الفيلم إلا على تصوير محاولاتهما المستميتة في الاستمرار في الحياة وهما يحملان دولابهما الثقيل، إلى أن ينتهي بهما الأمر بالعودة من حيث أتيا، فيبلغان الشاطئ الذي رأيناه في أول الفيلم، ثم يغيبان شيئًا فشيئًا في البحر، حيث تغمرهما المياه وهما لا يزالان يحملان الدولاب.

منذ رأيت هذا الفيلم وأنا أتصور حالي وحال كل من أعرف وكأن كلا منا يحمل دولابه الثقيل، يأتي معه إلى الدنيا ويقضي حياته حاملا إيّاه دون أن تكون لديه أية فرصة للتخلص منه، ثم يموت وهو يحمله. إنه دولاب غير مرئي، وقد نقضي حياتنا متظاهرين بعدم وجوده، أو محاولين إخفاءه، ولكنه قدر كل منا المحتوم الذي يحكم تصرفاتنا ومشاعرنا واختياراتنا أو ما نظن أنها اختياراتنا.

فأنا لم أختر أمي وأبي، أو نوع العائلة التي نشأت بها، أو عدد إخوتي وموقعي بينهم، ولم أختر طولي أو قصري، ولا درجة وسامتي أو دمامتي، أو مواطن القوة والضعف في جسمي وعقلي، كل هذا عليّ أن أحمله أينما ذهبت، وليس لدي أي أمل في التخلص منه”.

وصف بليغ من كاتب كبير.

لا أبالغُ إن قلت أنني علقتُ في هذا النص، شردتُ في تساؤلات لا حَصر لها، حاولت بعد أسبوع من الهذيان في بحر الأسئلة أن أكمل الكتاب، حتى تتضح لي صورة المعنى أكثر، وإذ بي أكتشف أنه كتاب رائع لا يُشبه شيئًا قرأته من قبل، قلم وسرد مُميز، صراحة وشفافية لبقة، حياة من الطفولة والصِبا إلى الشيخوخة والمرض، الكثير من البدايات والنهايات، الكثير من الأدباء كنجيب محفوظ ويوسف إدريس وجورج أورويل وغيرهم، والكثير من الأسماء، والثورات، والتغييرات الفكرية والاجتماعية، والبلدان العربية والأسيوية وحتى الغربية، والعديد من النظريات والتطورات الاقتصادية، ورسائل الإخوة، ومشاعر العائلة والغربة.

عند انتهائي من الكتاب أتضح لي معنى الدولاب الثقيل، مواقف كثيرة تثقل بكاهل الإنسان ومنها ما ذكره في سيرته، مزيج من المشاعر المُختلطة التي لم أستطع بماذا أصفها سوى أنها حقيقية تمامًا، شعرت بالخجل من أحكامي الصادرة عن أراء الكاتب في عدة مواقف، أولًا لأني استعجلت بالحكم عن فترة لم أعشها، وأحداث لم أخضها، ثانيًا لأني أصدرت حكمي قبل إنهائي للكتاب، فلذلك أنا أوصي جدًا بقراءة الكتاب بحيادية تامة، دون أحكام ومواقف.

شاهدت لقاء مع الأديب الراحل كان يضحك من سؤال الناس أنه لم يخبرهم بماذا علمته الحياة، فيقول: “أنا مُدرك لهذا، ومش من المفروض في آخر كل فصل تقول ومن هذا نستخلص كذا وكذا، المفروض كل واحد يستخلص بمخه“.

هذه أول قراءة لي للأستاذ الراحل جلال أمين، والأكيد انها لن تكون الأخيرة، قلم مثل هذا يجب أن يوضع في الرف الأعلى وليس في الرف الأسفل.


عائلة أحمد أمين، والطفل الصغير هو جلال أمين عام ١٩٤٥م

الأديب جلال أمين مع الروائي الكبير نجيب محفوظ عام ١٩٩٢م