فادي عمروش
فادي عمروش

د

مخدوعون بالعشوائيَّة

كيف يستجيبُ البشر إلى الحوادثِ التي تتضمَّنُ الاحتماليّةَ وعدم اليقين؟ ما هوَ الدورُ الخفيُّ للحظِ في الحياةِ الشَّخصيَّة والمهنيَّة؟ هل يجبُ أن نستخفَ بدور الحظِّ، والاحتمالات في رسمِ حياتنا؟

يناقشُ الكاتب نسيم نيكولاس طالب هذه التَّساؤلات في كتابه القديم القيّم “مخدوعون بالعشوائية -ويناقش فكرةَ عدم اليقين والاحتمالات- مستفيداً من خبرتِه الطَّويلة التي حصل عليها من تخصُّصه في مجال الرِّياضيَّات الماليَّة، وأبحاثه في العشوائيَّة، والاحتمالات، ويناقشُ في كتابِه أيضاً فكرةَ الاحتمالاتِ، وتأثيرها في حياتنا ومدى أهليَّةِ البشرِ للتَّعاملِ معها، مسلِّطاً الضوءَ على أفكارٍ يمكن اتِّخاذها بطريقة حياةٍ تستثمرُ الاحتمالات بدلًا من أن تتركَ لها حرِّيَّةَ العبثِ بحياتنا بعشوائيَّةٍ نجهلُها.

يؤكدُّ الكاتب على افتقارِ البشر للفهمِ الصَّحيح للاحتمالات، وعلى عدم تطويرهم هذه المهارة على النَّحو الذي يساعدُهم على اتِّخاذ القرارات الصَّحيحة، وعلى فشلِهم في ترجيحِ وقوع نتيجةٍ من بين عدّةِ نتائج ممكنةٍ لسيناريو معيَّنٍ، ويرى أنَّ البشرَّ يقعون ضحايا التَّفكير الخاطئ، والمضلِّل ما دام أنَّهم غير معتادين – بطبيعتهم – على  مفهومِ الاحتمالات عندما يتعلَّق الأمرُ باتِّخاذِ القرارات، وتنبُّؤِ المستقبلِ، أو شرحِ الحوادث الماضيّة، أو الحاضرة، ويذهب إلى القولِ إنَّ المكاسب التي يحقِّقها المستثمرون هي نتيجة  حظٍّ جيِّدٍ أكثر من  بصيرةٍ  عميقةٍ، وأنَّ الفشل العام في فهمِ الاحتمالاتِ، وعدم اليقين تأثيره يفوقُ  طريقة قياسِ المجتمعِ لنجاحات المستثمرين، لذا ينصحُ الكاتبُ بضرورة القراءة عن الاحتمالات وعدم اليقين؛ لما يعود بالنَّفع في امتلاك فهمٍ أفضل للأوضاعِ الاجتماعيَّة، وأسباب ارتكاب الخبراء للأخطاء، ودور التَّحيّزات في التَّفسير الخاطئ للحقائق.

يميِّزُ الكتابُ بين اتِّجاهين في تفسير الإمكانيَّات البشريَّة:

  • الأوَّل: “الرُّؤية المثاليَّة” التي ترى أنَّ البشر يستطيعون استخدام السَّبب للتغلُّب على الخرافات، والغرائزِ المؤذية، وتعدُّ هذه الرُّؤية غير واقعيَّةٍ البتَّة.
  • الثَّاني: “الرُّؤية المأساويَّة” وترى أنَّه لا يمكن أن يحصل أيُّ تحسُّنٍ، أو تطوُّرٍ دون الاعتراف أنَّ البشر معرَّضون بحكم طبيعتهم إلى الاعتقادات، والسُّلوكيَّات غيرِ المنطقيَّة.

ويذهب الكاتب مع الاتِّجاه الثَّاني إذ يعكس فهماً كافياً لمفهومي الاحتماليّة، وعدم اليقين، ويقترحُ حلَّاً للحدِّ من تأثير الخرافات، والتَّفكيرِ الخاطئ، ما دام أنّ الطَّبيعة البشريَّة تفتقر إلى التَّفكير المنطقيِّ السَّليم يتمثَّل في التَّفكير بأحداثٍ تاريخيَّةٍ بديلةٍ، أو حوادث لم تحدث، ولكن قد تحدث إذا تغيَّرت بعض الظُّروف المتعلِّقة بها، ويوضِّحُ أنَّ تخيُّل الحوادث التَّاريخيَّة البديلة هو أمرٌ صعبٌ لأنَّه يتطلَّب من البشر أن يحيدوا عن ميولهم الطَّبيعيِّ اتِّجاه التَّفكيرِ الخطِّيِّ والتَّفكير بالطَّريقة المعتادة، ولأنَّها في الوقت نفسه تساعد الشَّخص على تكوين فكرة أفضل عمَّا إذا كان القرارُ المتَّخذ هو الخيار الأفضل بين الخيارات المتاحة، أم لا.

ويتناول الكاتب مسألة الاحتمالات من عدَّة جوانب:

يستمدُّ القرارُ قيمته من كونه أفضل الخيارات المتاحة عند اتِّخاذه، وليس من النَّتائج المترتِّبة عليه

ترتفعُ قيمة السَّهمِ فيُجمع الكلُّ على صحَّة قرار شرائه، ثمَّ تنخفض قيمته فيسارع الجميع إلى إطلاقِ الأحكام بفشله، مع العلم أنَّ صحَّة القرارِ، أو عدمه لا يؤثِّر أبداً على قيمة السّهم -موضوع القرار- في المستقبل،  ولكن يتغافلُ البشر عن أنَّ الحكم على صحَّة القرار، أو خطئه تكون في ضوء المعلومات المتوافرة وقت اتِّخاذه، وليس في ضوء المعلومات التي توافرت بعد اتِّضاحِ النَّتيجة؛ لأنَّ حكم البشر على صحَّة القرار بناءً على معلوماتٍ حصلوا عليها في وقتٍ لاحق، يؤثِّر على حكمهم، ويقعون تحت تأثير تحيُّزٍ يُسمَّى التَّحيُّز بعد فوات الأوان، أو يميلون إلى افتراض أنَّ المعلومات الحاليَّة كانت متوافرةً، ومتداولةً وقتَ اتِّخاذِ القرار.
يوضِّح الكاتب أنَّ التَّحيُّز إلى النَّتيجة يعكس نزعة الطَّبيعة البشريَّة، إلى الخلط بين النَّتيجة وجودة القرار. يؤكِّد الكاتب أنَّ البشر يصدرون أحكامهم بناءً على النَّتيجة فقط، فمثلاً يحقِّقُ شخصٌ حسن النَّوايا نتائج سيَّئةً، ويحقِّق آخر نتائج إيجابيَّةً مع أنَّه يمتلكُ نوايا سيِّئةً، فيميل البشر إلى احترام، وتقدير الأخير، ولأنَّ النَّتائجَ تشوِّهُ قدرتنا على تفسير الحاضر، والمستقبلِ بالشَّكلِ الصَّحيح؛ ينصحُ الكاتبُ بضرورة الفصل بين النَّتيجة، والقرار في جميعِ جوانب الحياة، مؤكِّداً على أهمِّية هذا الفصل، وتأثيره الإيجابيّ على نجاح العملِ أيَّاً كان نوعه، ولا سيَّما في مجال الاستثمارات، والأعمالِ التي تقوم على الاحتمالات.

يؤدِّي عدم التَّفكير في الاحتمالات غير المتوقَّعة إلى نتائج أسوأَ من نتائج القرار ذاته

يشيرُ الكتاب إلى تشوّه النَّتائجِ عند حساب المتوسِّط الحسابيِّ لمجموعةٍ من القيم؛ إذ يستبعد هذا الأمر جميع القيمِ التي لا تقع ضمن الحدِّ الطبيعيِّ، ويوضِّح أنَّ هذا الإجراء يعدُّ مقبولاً في علم الإحصاء، في حينِ أنَّه قد يسببُ نتائج كارثيّةً في المهنِ، والعلوم التي تقوم على الحظِّ، والاحتمالات. فمثلاً، قد يسبِّب تغافل المستثمرين -في سوق البورصة- عن احتماليَّة وقوعِ أحداثٍ غير متوقَّعةٍ إلى الوقوعِ في خساراتٍ ضخمةٍ، أو إلى تفويت فرصٍ ثمينةٍ، ويضيف الكاتب أنَّ عدم التَّفكير بجميع الاحتمالات -المتوقَّعة، وغير المتوقَّعة – ربَّما يجعل الإنسان يدرس الحالة بشكلٍ غير صحيحٍ ينتهي به إلى اتِّباعِ ممارساتٍ سيِّئةٍ، أو إلغاءِ الممارساتِ الجيِّدة.

يستشهدُ الكاتبُ بحالةٍ أخرى ذُكرت في كتاب الاقتصاد العجيب -لستيفين جاي دوبنير وستيفين ليفي-  حول تلك المسألة، كيف أنَّ إصدار قانونِ الإجهاض 1973 ترك تداعياتٍ كبيرةٍ على  ارتفاعِ النَّشاطِ الإجراميِّ عكس ما توقَّع الخبراءُ؛ بمعنى آخر رفع من احتماليَّة رعاية عددٍ كبيرٍ من الأطفالِ في بيئاتٍ فقيرةٍ تسودها الفوضى، وبالتَّالي ارتفاعِ فرصة تحولِّهم إلى الأَعمالِ الإجراميّة في المستقبل، ويخلصُ الكاتب إلى أنَّ فشل المشرِّعين في دراسة جميع الاحتمالات الممكنة لهذا القرار نتج عنه خلق ظروفٍ اجتماعيَّةٍ سيِّئةٍ، وارتفاع معدَّل الجرائم.

يقع الجميع -حتَّى الخبراء- في مشكلة الخلط بين المفاهيم

يرى الكاتب أنَّ ميل الطَّبيعة البشرية إلى معاملة النَّتائجِ كما لو أنَّ جميعها تتساوى في احتماليَّة حدوثها شكلاً من أشكالِ التَّحيُّزِ؛ يحدثُ نتيجة تعلُّم البشرِ مفهوم الاحتمالات بطرائق عشوائيَّةٍ غير مدروسةٍ نتيجة ذلك، نقعُ -نحن البشر- في الخلط في فهم المصطلحات مثل المتوسِّط الحسابيِّ، والوسيطِ -على سبيل المثال- إذ يعتقدُ الإنسان – خاطئاً – أنَّهما مترادفان. ولذلك يشددُّ الكاتب على أنَّ المخرجات لا تكون متساويةً في احتماليَّة حدوثها في أيِّ حالٍ من الأحوال. 

ينبّهُ الكتابُ إلى خطورةِ هذا الخلطِ حيث يزدادُ احتمالُ تحولِّه إلى سلاحٍ في يد الأطرافِ القويّة، بمعنى آخر قد يستثمرُ السياسيون والمسؤولون – على سبيل المثال – جهلَ الشعبِ في المسائلِ الرياضيّةِ لإطلاقِ تصريحاتٍ دقيقةٍ بنكهةِ الزيفِ والخديعةِ. ولأنَّ هذا الخلطَ في المفاهيمِ قد يحدثُ في مُختلفِ القطاعات؛ يؤكدُ الكَاتبُ على ضرورةِ الوعي بهذا الأمر والتّسلُّحِ بالمعرفةِ الكافيّةِ.

تُوظَّف المعلومات في دحض الفرضيَّات وليس تأكيدها

يتطرَّق الكاتب أيضاً إلى العلاقة بين الاحتمالات، والفرضيَّات. فيُعرِّفُ الفرضيَّة بأنَّها تأكيداتٌ قابلةٌ للاختبار مستندةٌ إلى معلوماتٍ سابقةٍ، ولكنَّها لا تشير دوماً إلى ما سيحدث في المستقبلِ، وهي عرضةٌ إلى الدحضِ أو الإلغاءِ بصورةٍ دائمةٍ في ضوء المعلومات المكتشفة بالنَّظر إلى حقيقة أنَّ المستقبل قد يحوي نتائجَ، وعوامل لا يمكن التَّنبُّؤ بها،  ويؤكِّدُ على أنَّ الافتراضات، والنَّظريَّات تحمل طابع الهشاشة، ولو بقيت متداولةً، وصحيحةً لعقود، ما دام بالإمكان دحضها، والطَّعن فيها بمجرّدِ ظهور نتيجةٍ واحدةٍ مخالفةٍ لها، ويفسِّر كلامه بالإشارة إلى أنَّه رغم الصَّحة، والتَّوافق بين نظرية آينشتاين للنسبيَّة العامَّة _ إذا حُدِّدَت جميع مواقع، وسرعات جميع الجزيئات في الكون، يمكن التَّنبُّؤ بالسُّلوكيَّات الماضية، و المستقبليَّة -ونظريَّة فرنر هايزينبرغ لمبدأ عدم اليقين-  إذا عرِفت سرعة الجزيئة فلا يمكن أن يحدّد موقعها بدقَّةٍ والعكس صحيح–   لعقودٍ طويلةٍ- مع استغراب العلماء لهذا التَّوافق-  قد ينتهي علماء الفيزياء في المستقبل إلى تنقيح، أو إلغاء نظريَّة آىينشتاين بالكامل مع اكتشاف معلوماتٍ جديدةٍ.

تؤثِّر غزارة المعلومات على التَّقدير الصَّحيح للنَّتائج المحتملة

يفترض الخبراء أنَّ التَّعرُّض المستمرُّ للمعلومات الحديثة من شأنه أن يساهم في اتِّخاذ قراراتٍ أفضل، ولكن يرى الكاتب وجهة نظرٍ أخرى تقول إنَّ المتابعة المستمرَّة للأخبار يمنع الرُّؤية الشُّموليَّة، وبالتَّالي قد يؤثِّر على جودة قراراتنا، وينصح بعدم الإفراط في متابعة مجريات الأحداث، فذلك يحوّلنا إلى حبيسن لها مع اختراع الإنترنت الذي سهَّل الوصول إلى كلِّ جديدٍ بتسارعٍ كبيرٍ، ويستدعي ذلك -في رأي الكاتب- إلى زيادة الوعي، وعدم تصديقِ كلّ ما يُنشر؛ لأنَّ غالبيَّة متتبِّعي الأخبار يجهلون المعايير الصَّحفيَّة، وتقع على كاهلهم مسؤوليَّة الحكم على مصداقيَّتها، وفي السِّياقِ ذاته، يؤكِّد الكتاب على ضرورة الحذر من الكمِّ الكبير من المعلومات المغلوطة التي تُنشر بسبب السهولة التي وفَّرها الإنترنت؛ لذلك فالحرص على البحث عن مصادر موثوقة لاستقاء المعلومات بات أمراً أساسيَّاً لاتِّخاذ القرارات الصَّائبة، ويطرح الكاتب هذه المقارنة، مثلما يجب على المستثمرين أن يكتفوا بعدَّة مصادر وطنيّةٍ موثوقةٍ للبقاء على اطّلاعٍ على أخبار الأسهم، يجب على القرَّاء ألا يستقوا الأخبار إلا من مواقع تمتلك مصداقيَّةً.

وختاماً، لم يعد هنالك شكٌّ حول أهمِّية الدَّور الذي يلعبه الحظُّ، والاحتمالات في تسيير شؤونِ حياتنا حتَّى أدقّ تفاصيلها، فلا مكان بعد الآن للأعذار لجهلنا بل من الآن، فصاعداً علينا أن نوسِّع مداركنا، وأن نفكِّر بطريقةٍ شموليَّةٍ تحسب جميع الاحتمالات المتوقَّعة، وغير المتوقَّعة؛ لنكون نحن ربَّان السَّفينة المتأهِّب لإدارة الدفَّة حيثما نشاء لا حيثما يأخذنا الحظُّ.