نوف العوفي
نوف العوفي

د

موسيقى الفلامنكو ميلاد الحياة!

إن الاستماع لموسيقى محددة طول الوقت تعني أنك في ذات المحيط العاطفي من الحنين، والذكريات والذوق!، فمن يقلع عن عادة الاستماع لذات النمط الموسيقي، أو قراءة العديد من الكتب في ذات المجال، أو تناول أنواع محددة من الطعام منذ سنوات.. يفهمون جيداً ما معنى أن يحتاج المرء للقفز فوق ذائقته ولو مرة واحدة في حياته!

فنحن البشر نحتاج إلى قفزة أولى  خارج إطار اهتماماتنا المعتادة كي نُصبح أكثر جرأة في المضي قدماً وإحداث تغير شامل في شخصياتنا التقليدية المملة.. نحن نتغير بقدر تغير ذائقتنا المعتادة هذا ما أعرفه تماماً ولا شيء آخر!

فإذا كنت عاشقاً  للموسيقى مثلاً عليك أن تتخلص من ذوقك التقليدي تجاه موسيقاك التى ورثتها عن مجتمعك وأجدادك.. عليك أن تذهب إلى موسيقى العالم أجمع، أن تجوب القارات السبع على متن التذوق والانبهار لتستريح تارةً في حانات موسيقى الجاز الكلاسيكية، وتتراقص روحك على أنغام الموسيقى السالسا الكوبية والرومبا البرازيلية، وتغرم بموسيقى التانغو الأرجنتينية..

عليك أن تشد رحال الرغبة والمتعة المطلقة لاكتشاف موسيقى الفلامنكو الاسبانية.. هذا النوع من الموسيقى الذي لطالما آمنت بأن صانعه كان عاشقاً للحياة والفن.

لكن قبل ذلك علينا معرفة بأن عملية تذوق الموسيقا العالمية يعد عملاً في غاية المتعة التي تتطلب التأني والصبر والقدرة على الدهشة.. وربما الهوس الذي يصيب الكثير من محبي اكتشاف موسيقى جديدة كلياً.

فلطالما تساءلت عن سبب خلق الله للمهووسين بالفن؟ وبعد رحلة طويلة من المتعة والتأمل في العديد من الفنون المختلفة وجدت أن الهوس بالموسيقى هي حالة من لذة التباهي بالاختلاف والذوق الرفيع تجاه موسيقى محددة وهناك شيء آخر أكثر أهمية، أن المتذوق للفن لا تقل قيمته عن قيمة الفنان ذاته في ساحة الإبداع فكلاهما يكمل الآخر!

أكتب هذه السطور بعد تجربتي الخاصة  في اكتشاف ألوان عظيمة من الموسيقى المختلفة.. فما زالت أتذكر لحظات القفز فوق ذائقتي المعتادة والاستماع إلى موسيقى الراي الجزائرية؛ ذلك النوع من الموسيقى الذي تجتمع في نغماته حضارات مختلفة بين الموسيقى الشرقية، والجاز، والبوب والبلوز.

مازلت أتذكر أغنية الشاب رشيد “يارايح” ومن ثم الانطلاقة إلى عالم الموسيقى بين الكانتري، والجاز اللاتيني، وموسيقى الحياة الفلامنكو كما أسميتها التي أصبحت رفيقة الايام ومصدر بحث متواصل عن أصولها وأهم عازفها حتى أصبح للغجر مكانة خاصة يعرفها جيداً المقربين من حولي حينما أشاركهم ذوقي المفضل..

لقد أصبتهم بعدوى موسيقى الغجر وأحبوها جراء شغفي المتواصل في معرفة كل ماهو جديد وقديم فيما يخص موسيقى الفلامنكو.

لماذا موسيقى الفلامنكو؟

أؤمن دائماً أن الوقوع في غرام نوع من الفن أو الموسيقى يشكل نوعاً من الانجذاب الروحي.. فبعد رحلة طويلة في الاستماع للموسيقى العالمية المختلفة وحتى موسيقى بلاد القوقاز، والموسيقى الايرلندية والبولندية وجدت شيئاً مميزاً في موسيقى الفلامنكو الاسبانية التي تجتمع فيها كل الحضارات.

إن موسيقى الفلامنكو (Flamenco) تعد نوعاً من الموسيقى الإسبانية، الذي يقوم على أساس الموسيقى والرقص. حيث تظهر من خلالها  الجذور العربية في طريقة الغناء من الحنجرة وفي جيتار الفلامنكو وتأثره بالعود، الذي نشأ  في أندلسيا في القرن الثامن عشر. وتعد موسيقى الفلامنكو معروفة كذلك في المغرب وخصوصاً في المدن الشمالية كتطوان، شفشاون وطنجة ومدن أخرى، حيث الشمال المغربي والجنوب الإسباني يتشابهان كثيراً في الثقافة والهندسة المعمارية للمدن.

وحسب بلاس إنفانتي مصطلح فلامنكو يرجع إلى (Fallah Mengo = فلاح منجو) وهم الفلاحين الموريسكيون الذين أصبحوا بلا أرض، فإندمجوا مع الغجر وأسسوا ما يسمى بالفلامنكو كمظهر من مظاهر الألم التي يشعر بها الناس بعد إبادة ثقافتهم. البعض يربط اسم هذه الموسيقى بطائر النحام الوردي.

وجد أيضاً في بحوث عن أصل موسيقى الفلامنكو، بأن الكلمة التي تشتهر بلفظها في موسيقى الفلامنكو وهي ال..”اولليه”، وهي كلمة تشتهر بالإسبانية والمكسيكيM وغيرها عند العزف على موسيقى الفلامنكو، ففرض عن أصل هذه الكلمة بأنها “اولليه وبالتالي الله”، وليس هنالك إثبات حول هذا. وبعض العرب كبار السن يقولون بإن كلمة فلامنكو كانت في الأصل عربية منحدرة من “فلنلهو”. 

أسباب نشأة الفلامنكو

ولدت فنون الفلامنكو وكانت غنائيات تتميز بالحزن والاكتئاب كتعبير عن الظلم الاجتماعى ومشاق الحياة والبؤس العام ويعد الغجر على أنهم هم أساس هذا الفن ولكن الحقيقة أنهم ساهموا ولعبوا دوراً هاماً في تطور الفلامنكو.

ولا يمكن أن نغفل عن تأثير الموسيقى العربية الشعبية والرقصات الأندلسية على الفلامنكو وتأثر الفلامنكو كثيراً بالإيقاع الشرقي البيزنطي والأغنية الأندلسية البدائية، ويظهر هذا في فلكلور عدة قرى بالقرب من غرناطة والتى كان يسكنها الموريسكيون.

وهذا النوع من الغناء يدل على مدى تأثر الفلامنكو بالأغنية العربية القديمة ومدى التشابه الكبير بين الأغنية الأندلسية والفلامنكو، حيث أعلن الفلامنكو عن نفسه في القرن الـ 18 وتشير كثير من الدراسات إلى أن هذا الفن مرتبط بالغجر وثقافات أخرى تعايشت في المنطقة ومن بينها الثقافة الموريسكية ذات الأصول العربية الإسلامية إضافة إلى الثقافة الإسبانية المحلية وتطور بفضل الغجر.

إسبانيا والفلامنكو

يقول الناقد الموسيقي أندريس ليبو يرفع فن الفلامنكو رأس إسبانيا عالياً في سماء الموسيقى والأداء الحركي.. ولم يحظ َالفلامنكو بالاعتراف إلا في أواخر القرن العشرين وذلك لأنه بدأ بسيطاً كفن وضيع لارتباطه بالغجر الأسفل ترتيباً في الطبقة الاجتماعية.

وبداية من من عام 1860 خطى هذا الفن أولى خطواته نحو الانتشار خارج المثلث الأندلسي الذي استوطنت الغجر لينتشر في جميع حواضر ومدن إسبانيا الكبرى مثل مدريد وبرشلونة، وابتداءً من من عام 1910 شهد الفلامنكو فترة زاهية من حياته باجتياح المسارح باستعراضات فنية مذهلة يكتشف فيها الناس والعالم بأكمله منجماً غنياً من المتعة الفنية الراقية والنبيلة والمؤثرة مما دعا محترفي الفلامنكو إلى إيجاد سبل تطوير وتجديد لأنماط الفلامنكو وطرق أدائه يتضمن الأغاني الحزينة وأخرى ذات الطابع السعيد.

ويؤدى الفلامنكو بشكل فردي أو جماعي بالقيثارة أو البيانو أو آلات أخرى. و تم تطوير نوع جديد nuevo flamenco اأي الفلامنكو الجديد بعد مزج الفلامنكو الاصيل بفنون أخرى مثل الجاز والباليه والرقص الحديث وغيرها من الفنون.

وابتداءً من خمسينات القرن الماضي شق الفلامنكو طريقه للغرب وعمّ انتشاره عالمياً ليحتل مكانته بجانب أنماط الموسيقى التقليدية والغنائيات الراقية وفنون الأداء الحركي.

أعترف أن معلوماتي المعرفية تجاه موسيقى الفلامنكو ضئيلة تجاه تفاصيل وتاريخ هذا النوع الفاخر من الموسيقى لكنني ممتنة إلى التوصية الأولى من أحد الأصدقاء الذي يعيش في برشلونة منذ سنوات بالاستماع إلى موسيقى العظيم Paco de Lucía (باكو دي لوسيا).

أتذكر لحظة اندهاشي الاولى أثناء الاستماع لعزف موسيقى باكوالاخاذة كانت مزيجاً من الريف الإسباني الغجري، و شوارع مدريد في الخمسينات كانت أنامله تعزف ببراعة مذهلة مقامات خماسية من موسيقى الفلامنكو، تحرك وجدان السامع وتدفعه إلى ارتياد آفاق جديدة. ظهر نبوغه الموسيقي باكراً، فقد ترعرع وسط أسرة موسيقية في الأندلس، وتعلَّم العزف على القيثارة من والده الذي كان عاملاً فقيراً، يشتغل في أحد المصانع نهاراً، وفي الليل يعزف على القيثارة في المطاعم. وفي سن التاسعة، غادر باكو المدرسة ليخصص وقته لتعلم العزف على القيثارة، التي كان يجبره والده على تعلمها.

يقول باكو في كتابه “باكو دي لوسيا” عن طفولته: “لو أنني لم أولد في بيت والدي لكنت اليوم لا شيء. لا أؤمن بالعبقرية العفوية. فقد أجبرني والدي على عزف القيثارة عندما كنت صغيراً“.

كان يعزف أكثر من عشر ساعات يومياً وهذا الكد الموسيقي أعطى أكُله سريعاً. فبعدما أتيحت له الفرصة لتقديم عرض في الإذاعة المحلية لمدينة “الجزيرة الخضراء” عام 1958، أي في سن الحادية عشرة، خلف عرضه المفعم بالرقة.

أما عن العشق الأبدي فهم ملوك الغجر، الذين أسروا قلوب الملايين بموسيقى قيثارته ومواويل الغجرية الخشنة والحزينة جداً  لذلك يعتبر الكثير محبي موسيقى الفلامنكو أن فرقة ملوك الغجر هي البوابة الأولى لمعرفة العالم أجمع بأحزان وفنون الغجر.

مؤخراً قال لي أحدهم.. مَن يعشق موسيقى الفلامنكو لابد أن يستمع إلى موسيقى (فرانسيسكو تاريغا) Francisco Tárrega الساحرة والشجية لم أكن أعرف مسبقاً من هو تاريغا إلى أن قادني البحث عن تفاصيل حياته من هول انبهاري بوفاء موسيقاه لأصوله الغجرية.