نوف العوفي
نوف العوفي

د

فريدا كاهلو وخوان غابرييل في سماء عزلتي!

يقولون أنّ الكون شاسع بما يكفي كيلا تتقاطع مسارات الأشياء مع بعضها.. كيلا يلتقي شخصان يحملان ذات الشقاء في نفس المكان والزمان.. هذا ما نعتقده على الدوام، وكل ما يحدث عكس ذلك سنحيله للصدف..

تلك الشماعة التي نُحسن التعبير عنها بشكل جيد، لكن ما حدث في عزلتي ليس مصادفة بل نوع من ارتباط الأشياء، أو دعونا نقول نوع من المشاعر الإنسانية المترابطة.. ربما لنفس الظروف.. هذا أقصى عذر حصلت عليه أفكاري من تحليل الموقف لاحقاً!

قبل عدّة أسابيع ذهبت إلى المكتبة بهدف اقتناء كتب عشوائية.. وبعد جولة قصيرة بين الرفوف الضخمة داهمتني رغبة عميقة بضرورة اقتناء كتاب للكاتبة الأمريكية «هايدن هيريرا» يحكي سيرة حياة الرسامة العظيمة وأيقونة المكسيك «فريدا كاهلوا».

لم تكن مُجرد سيرة ذاتية بل عمل مُتكامل يرسخ قيمة العمل بحب وشغف.. لقد أغرمت هيريرا بحياة وتاريخ كاهلوا، تركت كل شيء وسخرت الكثير من الوقت للبحث عن أدق تفاصيل فريدا كاهلوا التي كتبت عنها في إحدى صفحاتها: “تعلقت فريدا كاهلوا بتربة وحضارة المكسيك العريقة.. حضارة الازتيك والمايا، لبست الأزياء المحلية؛ شال الريبوز وثياب التيهوانا.. كانت أصابعها تُظهر معرضاً متبدلاً من الخواتم، هي بحق امرأة متعددة الوجوه كُتب عليها أن تتعذب طوال سنين حياتها لكنها ظلت تروي النكات، والنوادر على سرير المرض”.

كنت اقرأ هذه الصفحة بمتعة ودهشة مُطلقة.. بدت هيريرا في وصف كاهلو وكأنها صديقة الطفولة، أو إحدى قريباتها. لم تفوت أدق تفاصيل حياتها وعالمها المليء بالقصص واللوحات الفنية التي جسدت كل آلامها.

لقد جمعت الكاتبة الكثير مِن رسائل كاهلوا المليئة بالتساؤلات حول شخصيتها التوّاقة للحب واللقاءات الحميمية. عشقت فريدا في حياتها الرسم وحبيبها دييغو ريفيرا.. كتبت له الرسائل، المفعمة بالعاطفة الجياشة والتعبيرات التي تحمل الرجاء والأسى.

عاشت عذابات الانتظار وقسوة الحياة حتى أصبحت “فريدا كاهلوا” التي مجدها الفنانون من كل بقاع الأرض. كانت الصفحات تتوالى نحو معرفة المزيد عن حياة فريدا الصاخبة، والمفعمة بالأمل والرجاء، والخيبة والحزن والقوة..

كان كل شيء في تلك اللحظة مسخراً للتركيز والمتعة، إلى أن وصلت إلى الصفحة رقم مئة، وفي تلك الأثناء قررت التوقف عن القراءة والبحث عن موسيقى، أو أغنية داخل مساحتي المقدسة.. فلا يمكنني العيش بانتظام مع الأشياء.. لا يمكنني الوفاء لكتاب واحد لعدة ساعات أو أسابيع.. كل ما عرفه بأنني أعيش بروح جائعة على الدوام، أقفز من حياة كاتب إلى رواية مترجمة.. وحينما تعبر مخيلتي الموسيقى أتجاهل كل شيء وأركض إليها..

وهذا ما حدث ركضت إلى المجهول أبحث عن حياة أخرى في أغنية، في العادة يستغرق البحث عن أغنية أو موسيقى بعض من الوقت فأنا أُسخر وقتي لمعرفة تفاصيل المغني ومسقط رأسه وحكاية تلك الأغنية في حال وقعت في غرامها! لكن ما حدث لم يكن مجرد مصادفة بل اتحاد الأرواح في رحاب عزلتي!

لقاء فريدا وخوان في فضاء عزلتي!

لا أعرف ما الذي دفعني للبحث عن أهم موسيقي في الفلكلور المكسيكي.. لابد أنها روح فريدا المحبة للفن كانت تطوف في سماء عزلتي وتحثني على سماع روعة موسيقى المارياتشي الفلكلورية، وأغنيات Vicente Fernadez العميقة والجياشة حتى أخذتني ايقاعاتها المختلفة للعثور على المغني المكسيكي «خوان غابرييل» ذو الصوت الحنون.

لم أكن أعرفه مُسبقاً لكن صوته كان ينزف حزناً بكلمات أغنية Hasta Que te conoci – “حينما التقيت بك”. لم تكن أغنية عادية بل قصة ألم تشبه حياة فريدا ذاتها..

تقول كلماتها:

“لم أعرف ما معنى الحزن

لم أكن أعرف ما تعنيه الدموع

كنت أعرف فقط عن المودة والحنان لأنه منذ كُنت صغيراً هذه ما علمتني إياه أمي

لم أعانِ قط

لم أبكِ قط

كنت سعيداً جداً حتى التقيت بك.. بدأت أرى الحياة من الألم “

بعد الاستماع لتلك الأغنية أُصبت بنوع من الحزن والأسى وكأنني أواسي بها فريدا في ليالي وحدتها ومرضها.. لا أعرف لما عثرت على تلك الأغنية في أوج تأثري بحياتها وحبها البائس.. لم تكن مصادفة بل تضامن روحي منذ ذلك الحين، ورغم فروقات الزمن بين المغني خوان غارسيا وفريدا إلا أن الحياة جمعتهما في عزلتي.. جمعتهما على ذات الوتيرة من الألم.. وأصبحوا في ذاكرتي أبناء المكسيك الأوفياء لبعضهم حتى بعد الموت..