فاطِمة السر
فاطِمة السر

د

كُل شيء يُمكن أن يتغيّر!

آه يا عزيزي، انظُر كيف تتغير الأوضاع وكيف لألطاف الله أن تضُمنا، لازلتُ أتذّكر حديثنا الذي دار بيننا قبل عشرة أعوام؛ عندما عُدتَ منكسرًا وبدى عليك الأسى…
حينها لم أقوى على مُواساتك ولا على ردك؛ تكتلت مشاعري ولم أستطع وزن المعادلة، لكنّي كنتُ واثقًا بأن الله سيعوضنا بأيام جميلة، و سيُنسينا كل ما عِشناه في تلك الفترة.
أذكر حين حدثتني يومها، ثم قُلتَ لي -بعد أن أغروقت عيناك بالدموع- بصوت مبحوح يملؤهُ الوجع:
“أتعلم ما يؤلمني يا صديقي!
ما يؤلمني وضع البلاد وحال أهلها…
أسيرُ مارًا بين الناس وقد تشحبت الوجوه إحباطًا، بعد أن كانت تشع أملاً، أسمع أحاديث الأطفال تضّج بالتشاؤم عن إقتصاد البلاد وما سيحدث لها من تدهور، بدلًا من أن يكون حديثهم متمركز على اسم الكرتون الجديد الذي سيُعرض، أو على آخر إصدارات اللُعب، لقد رأيت الأباء لا ينامون الليل إلا بطرقات الشوارع أمام المصارف؛ للحصول على بعض الأموال التي لا تكفي للمعيشة!
للأسف أصبح كُل شيء على هذه البلاد صفًا طويلًا لا يكاد ينتهي، الآلام على هذه الأرض تسري في عروق الجميع، الأعمار تتساقط كما الأوراق، وكذلك الأحلام…

أوّاه يا صديفي، أتعلم ما يؤلمني حقًا!
ما يؤلمني تناثر الشهداء لكي يحكمنا مُهلك؛ فالشخص ذاته الذي قتل ابنائنا يحكم بلادنا!
يا تُرى متى سنكُف عن رؤية الشهيد يُدفن وعن ظُلم الفراق، عن سماع الصرخات التي تتعالى في ضياع، وعن رؤية أبٍ كفن ابنه بعد أن جاع.. متى سنكُف؟!
لقد أصبحت العيشة في هذه البلاد مُحالة؛ أكاد أجزم بأننا من دول العالم العاشر وليس الثالث، فهُنا إمّا أن تموت قبل أن تتكيف، أو تتكيف قبل أن تموت؛ فالأولى فناء والثانية بقاء، ولكن ألك أن تتخيل؟!
بين الطموح والواقع يضيع الكثير؛ ففي بلادي القلوب تموت مبكرًا لتئِد الأحلام وتنفي وجودها!

فها نحن هنا على بلاد تُباع على قارعة الطريق ببضعة آلاف لا غير، على بلاد تفرّقت أجزائها وتغيرت أحوالها؛ فقد أصبح الكثير يودِّعون هذه البلاد، أو لعلّهم يهربون.. لكن بالطبع هم لا يهربون منها؛ ولكنّهم يهربون من الذين يدّعون بأنهم المسؤولين عنها وعنّا، يهربون للنجاة من هذه الأوضاع البائسة؛ ولرُبما سيعودون عندما تُصبح هذه الدولة صالحة للعيش.

نحن هنا والناس يشتكون من أزمة المواصلات، وغلاء الأسعار وقهر النفوس، وإرتفاع الدولار أيضًا.. فهُنا يذهب الطالب للإمتحان بقلم في يده، وعقله لا يُفكر إلّا بما بعد الإمتحان.

نحن هنا والناس منشغلون بتأمين بيوتهم وشوارعهم، بدلًا من تأمين مستقبلهم!

نحن هنا على بلد المليون عاطل عن العمل، و بلد المليون وظيفة… و وسط هذا الصراع يخرج المليون متفلسف ليُخبرنا بأنّا مُخطئون.

نحنُ هُنا على أرض المليون قرار، نستيقظ على خبر أن الدراسة ستبدأ غدًا، ثُم فجأة يظهر قرار في منتصف اليوم بتأجيلها!

نحنُ هُنا على أرض المليون دقيقة في الشهر دون كهرباء، نحن من نبدأ الصباح المُشرق في الظلام، ثم نُكمل مسائنا ونحن نطوف بالشموعِ بحثًا عن أسِرَّتنا آملين بغدٍ أفضل.

ها نحن هنا على أرض المليون حالم والمليون سارق للحلم؛ نحن نحلم بأن نجعل من هذه الأرض دولة، ومن أنفسنا أشخاص يُذكر وجودهم…”

وبعدها تمكّن البُكاء مِنك دون أن تُكمل حديثك، ولكنّ كان لألمِكَ صوتًا مسموعًا جدًا…

لكن دعكَ من هذا يا عزيزي، و تأمَّل ما حدث الآن!
لقد إنتهت تلك السنوات المريرة بكل صُعوباتها، إنتهى مرض الكورونا وإنتهت النزاعات والمشاكل في هذه البلاد، مرّت الأيام والشهور والسنوات، وتغير الحال كثيرًا عمّا كُنا عليه مًنذ ثورة ديسمبر المجيدة، لقد كبرنا وبدأ كل شخص مِنا في تحقيق أمنياته وأحلامه؛ وانشغل في حياته وأعماله الخاصة.
إنتهت السنوات العُجاف يا عزيزي، لقد توارى سواد تلك الكُربات، وها نحن الآن في زهاء ورخاء؛ حتى الكهرباء أصبحت لا تنقطع إلّا في حالات نادرة جدًا، ولدقائق قليلة، لقد تغيرت البلاد إلى الأفضل بفضل الله، ثم بجُهد شبابنا وبناتنا المخلصين أيضًا.
حقًا لا أعلم كيف صبرنا في ذلك الوقت!
ففي كل مرّة أتذكر زمن الحكومة الإنتقالية، وصعوبة المعيشة في تلك الفترة؛ أسجدُ شاكرًا وحامدًا لله الذي عوضنا بهذه الأيام الجميلة وبشّر الصابرين بخير الجَزاء.