زينب حجّار
زينب حجّار

د

بين تأليه وتسفيه الجمهور للدحيح

قبل فترة تم نشر أو تسريب مقطع قصير “للدحيح” وهو يؤدي مقطعا من برنامجه الجديد “متحف الدحيح” بعد أن انتقل برنامجه إلى منصة شاهد، ظهر “الدحيح” في المقطع وهو يقول النص جملةً جملة، حيث يُملي عليه شخص آخر النص جملة تلو الجملة، وانهالت التعليقات السلبية عن الدحيح، وعدَّ كثيرون أن هذا الفيديو ما هو إلا فضيحة للدحيح، وأن الدحيح ما هو إلا مجرد “دمية” أو ممثل يؤدي النص وانتهى! لكن في مقابل هذا تجد أن هناك كثيرين من يُشبّحون للدحيح ويرفعون قدره بشكل “مقزز” وكأنه منزه عن الخطأ، أزعم بأن كلا الفريقين قد بالغ كثيرا، فالدحيح ليس مجرد “دمية” أو ممثل ولا حتى باحث أو فلْتة زمانه.

تنويه: لا تُكمل قراءة التدوينة إن كنت تعتقد أنني سوف أنتقد أو أناقش محتوى الدحيح: هل محتواه علمي؟ هل مصادره موثوقة؟ هل يدعو إلى الإلحاد؟ لست مؤهلة لمناقشة ذلك، لكن سوف أطرح نقاطا تتعلق بتعظيم الجمهور للدحيح أو تقليل الجمهور لشأن الدحيح بأنه شخص أقل من عادي.

لماذا يتم تلقين الدحيح جملة جملة؟

قبل كل شيء أعتقد أنه ينبغي توضيح نقطة مهمة جدا وهي: لماذا يوجد شخص يُلقن الدحيح جملة جملة؟ ألهذه الدرجة الدحيح لا يستطيع أن يقول جملة واحدة؟!

تحدث صانع المحتوى ومقدم برنامج “حمصوود” عبد الرحمن الدندشي عن هذا وقال في فيديو بأن هذا بسبب قرب الكاميرا من الدحيح، ولو استخدم الدحيح تقنية شاشة التلقين أو autocue لكي يقرأ منها النص – كأغلب المذيعين- لظهر الدحيح بشكل غريب وكأنه فعليا يقرأ من الكاميرا لقُصر المسافة بين الدحيح والكاميرا، وعوضا عن استخدام شاشة التلقين فإنه يتم تلقين الدحيح النص. لكن لماذا جملة جملة؟! لماذا لا يقول الدحيح النص كاملا؟

اليوتيوب ليس كالتلفاز!

قد يكون سبب تلقين أو قراءة الدحيح للنص جملة جملة أو فقرة فقرة؛ لأن كل كلمة في نص الفيديو مكتوبة بدقة ولا يُقبل الارتجال فيها أو الخروج عن النص، لهذا فإنه من الصعب – بل من المستحيل – أن يحفظ النص ويقدمه بلقطة واحدة وبشكل سريع غير مخلّ، لذلك يقوم كثير من صناع المحتوى على اليوتيوب باستخدام شاشة التلقين (autocue)، فاستخدامها أصبح متاحا للجميع –تستطيع صنع واحدة بنفسك– لذلك لا تستغرب أبدا من أن يقرأ “يوتيوبرك” المفضل من شاشة التلقين أو أنه عندما يُصور فإنه يُلقي النص جملةً جملةً أو فقرة فقرة ويحررها لاحقا.

وإن كان صناع المحتوى لا يستخدمون شاشة التلقين ومع ذلك فإنهم يتكلمون بشكل صحيح وسريع ولا يتلعثمون أثناء الحديث؛ فهذا لأنهم يقومون بعمل jump cuts أثناء تحرير الفيديو. لنقل أن صانع المحتوى يصور نفسه مدة 15 دقيقة وهو يتحدث في لقطة واحدة، ثم يقوم بتقطيع الفيديو لعدة أجزاء لحذف الأخطاء أو لحذف الأجزاء التي تلعثم فيها ويقصّر الفيديو قدر المستطاع، وهذا ما يسمى بال jump cut (أن يقوم المحرر بقص لقطة متواصلة يكون فيها المقدم واقفا في المكان نفسه)، وهذه التقنية غالبا غير مقبولة في التلفاز لكنها على العكس منتشرة ومقبولة في اليوتيوب؛ بهدف المحافظة على انتباه المشاهد في كل ثانية؛ لأن كل ثانية مهمة جدا. وكصانعة محتوى جديدة فإنني أستخدم الكثير من الjump cuts في الفيديوهات التي أحضّرها لأزيل الأخطاء ولجعل الفيديو أقصر مما يمكن.

هل استخدام شاشة التلقين أو التقطيعات يقلل من شأن صانع المحتوى؟ أترك لك الإجابة. هل لهذه الممارسات جوانب سلبية مثل: تقصير وقت الانتباه attention span وجعلنا ننتبه لوقت أقصر؟  أو ربما خلق تصور عن صانع المحتوى أنه مثالي لا يتلعثم في الكلام؟ ربما.. وهذا يجب طرحه والنقاش حوله.

نتاج عمل فريق لا فرد: ضرورة إظهار الفريق

ربما قرأت بعضا من تعليقات الجمهور عن الدحيح أنه عبقري زمانه ويفهم في كل شيء: الرياضيات والفيزياء والأحياء وعلم النفس وعلم الاجتماع، لكن ماغاب عن هذا الجمهور أن هناك باحثين أو كتاب يبحثون ويُعدون له محتوى الحلقات، ربما يشرف عليهم أحمد الغندور بنفسه، لكن ما يهمنا أنه ليس وحده من يعد ويكتب وهناك أشخاص ورائه يبحثون ويكتبون.

وربما أحد الأمور التي أرى أن الدحيح لم يُوفق فيها أنه لا يذكر أسماء معدي الحلقة أو فريق العمل ضمن حلقته أو في صندوق الوصف، صحيح أنه يذكرهم في حسابه على الفيسبوك، لكن هذا ليس كافٍ والأجدر به أن يقوم بوضع أسماء الفريق في الفيديو أو في صندوق الوصف.

أزعم أن ذِكر الباحثين ومعدي الحلقة يساهم في التخفيف من حدة “تعظيم” الدحيح لدى الجمهور، لكن بالطبع هذا لا يقلل من قدره شيئا، وسيبقى الجمهور يعظّم شأن مقدمي البرامج بالرغم من أنهم -غالبا – لا يبحثون أو يكتبون نص الحلقة، لكن على الأقل لنحاول التخفيف من هالة القداسة هذه.

اليوتيوب لم يعد منصةً للهواة

وهناك سبب آخر يجعل ذكر فريق العمل ضروريا في محتوى اليوتيوب وهو أن منصة اليوتيوب ليست كالتلفاز حيث يعرف الجمهور أن هناك فريقا كبيرا قائما على البرامج التلفزيونية، على عكس اليوتيوب الذي يمكن لأي أحد النشر فيه، وهو منصة تنشر فيها المحطات التلفزيونية الضخمة وأيضا الأفراد الكادحون في صناعة المحتوى على حد سواء! حتى أنه باتت الكثير من القنوات التلفزيونية – أو المؤسسات الكبيرة- تخصص قسما للمنصات الرقمية بحيث تصنع وتنشر محتوى رقمي. يعني أن اليوتيوب والانتساجرام وغيرها من المنصات.. لم تعد مقتصرة على الأشخاص المستقلين الذين لا تدعمهم مؤسسات قوية، بل منصات للجميع ينشر فيها أصحاب الإمكانيات الهائلة والمستقلين الكادحين. لذلك أرى أنه عندما لا نذكر فريق العمل -أو نحاول إخفاءه – فنحن تقريبا نساوي صناع المحتوى المستقلين بفريق تقف خلفه مؤسسات كبيرة!

ماذا إذاً؟

للجمهور: أعتقد أنه من الجيد لو تعاملنا مع الدحيح أو غيره من مبسطي العلوم على أنهم “ويكيبيديا”، الويكيبيديا مهمة لكنها ليست مصدرا بحد ذاته للمعلومة لكنها تعرّفنا بشكل أولي بمعلومات أساسية حول موضوع أو مجال ليس من اختصاصنا ولا نعرف عنه الكثير أو ربما تُعرفنا بالكلمات المفتاحية لما يجب أن نبحث عنه، ثم إن أردنا التعمق أكثر نرجع للمصادر المذكورة في الويكيبيديا – إن كانت موثوقة.

لصناع المحتوى: لو وجد صانع المحتوى أن جزءًا من جمهوره يحمل بذور التأليه والتعظيم له، فليشمّر عن ساعديه فلديه مهمة إضافية:

تأكد من أن لديك آلية واضحة لذكر فريق العمل أو الأشخاص الذين يساعدوك في صنع المحتوى، حتى يعي المشاهد أن ما يشاهده هو نتاج عمل فريق لا نتاج عمل فرد واحد كالدحيح، وأعتقد أنه من الجيد لو قام صانع المحتوى بتخصيص حلقة لكيفية إعداد محتواه وإخراجه، لكي يرى المشاهدون عملية تحضير المحتوى. وإن كنت تصنع محتواك بنفسك، فأعانك الله أولا.. تحدث مع جمهورك بشأن صعوبة ما تمر به في إعداد الفيديوهات ونشرها.

أعتقد أن صانع المحتوى لديه مسؤولية أخلاقية تجاه الجمهور في ألاّ يدع الجمهور يرسم تصورا عنه كأنه “عبقري زمانه”، ففي النهاية إن الهدف من صناعة المحتوى إيصال رسائل هادفة، وصانع المحتوى المجتهد المتواضع سوف يظل محبوبا أمام جمهوره، قال صلى الله عليه وسلم:” وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله”.