عبدالرحمن عرفة
عبدالرحمن عرفة

د

ماذا لو درس آينشتاين الطب بدل الفيزياء؟

«لا تجبروا أولادكم على آثاركم، فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم» – سقراط، الإمام علي.

تُرى هذه الفجوة بوضوح في وقتنا الحالي، إذ أنّ الفورة المعرفية التي حدثت مؤخراً عمّقت الشرخ بين الجيل السابق ومَن أتى بعده. فأصبح هناك حالة مِن الحقد على النشء الجديد كونهُ مُنِحَ الكثير مِن الفرص التي لم تكن متاحة لمَن قبله، ليس لأولئك القديمين جدًّا، بل فقط للجيل الذي سبق حدوث هذه الطفرة الثقافية المتجليّة بسهولة الحصول على كل شيء والقيام بأي شيء، أو عاصرها بوقتٍ متأخر.

فينظر حينها مَن عمره 40 سنة إلى الذي عمره 20 سنة نظرة مليئة بالأسى والاحباط. إذ يرى فيه فرصته الضائعة التي هربت منه لأسباب زمنية بحتة، لأنه فقط أتى في توقيت خاطئ. فيمارس عندها نوعًا من التنمر العمري عليه، كونَ ذلك الشاب الصغير والفتاة اليافعة يمثلون بالنسبة لهم إمكانيات ضائعة، شخصيات كان يجب أن يكونوها هم وفرصاً كان ينبغي أن يغتنموها بأنفسهم، إلا أن الزمن حرّك أوراقه ليصنع خندقاً معرفياً سقطَ فيه الكثيرين لأسباب خارجة عن الإرادة، لأسباب لا ارتباط لها إلا مع عقارب ساعة مُتحيّزة وتواريخ غير مناسبة للولادة.

في الحقيقة، قد لا يكون هذا الكلام صحيحاً تماماً، إلا أنه لا بد مِن إيراده لإيضاح الحالة السائدة ووضعها ضمن الإطار. فالفرق بين مَن وُلدَ عام 1900 أو1850 أو1930 كان ضئيلًا لا جديد جذري فيه. أما الذي وُلدَ في عام 1980 مثلاً وعام 2000 أو 2005 فحتماً سيكون ضخماً، ويمكنك أن تزيح هذه التواريخ أقرب أو أبعد قليلًا إلا أن الفكرة تبقى نفسها.

تنتج عدم دقة هذا الكلام مِن أنّ الفجوة العمريّة حاصلة معهم أيضاً. أي أنّ الذي وُلدَ حديثًا -2000 ميلادية على سبيل المثال- سيتعرّض لنفس ما تعرض إليه من إحباط ذلك الذي ولد عام 1980 عندما سيرى مولود عام 2020 تُتاح له إمكانيات لم يكن لأي أحد أن يتصوّرها.

طفولة موثّقة بالصوت والصورة والفيديو. استطاعة الدخول لأي موقع والاطلاع على كل الثقافات والبلدان. إمكانية رؤية كل الخرائط. إتاحة تعلّم كل اللغات وسماع طريقة نطقها… الخ. هذه الأشياء كانت رفاهية مُسبقًا، فغالبًا لم يبقَ مِن طفولتنا سوى صور ثابتة بالكاميرا القديمة التي تُحمّض أفلامها يدويًا، ونادرًا ما ستكون الصورة جيدة بل تكون صورة رديئة بلهاء نظهر فيها ونحن نضع إصبعنا في أنوفنا.

فليس هناك داعٍ للإحباط عندما نرى إمكانيات الجيل الجديد صغير العمر. لأنهم هم أنفسهم سيكونون مُستحاثات وتراث لمَن سيولد بعدهم أيضًا، كونَ ماكينة التطوّر المعرفي والتقني تدور بلا هوادة ولا ترحم أحدًا أبدًا.

قديماً كان الجهل أمر يمكن تبريره. إنسان جاهل لأنه لا يملك نقود لشراء الكتب وليس عنده يوتيوب كي يرى الآخرين ويتعرف على ثقافاتهم وما يعتقدون به. أما الآن فالجهل اختيار مُسبق، فأي إنسان لا يزال بدائي التفكير بسيط حد الضحالة في فكره لا ترحمه أبدًا لأنه هو مَن اختار ذلك. عندما تكون كل هذه الوسائل المعرفية متاحة ولا أحد يحرك ساكنًا، فلا بد من القول أنّ هذا جهل عن سبق إصرار وترصّد وليس لشحّ الإمكانيات مثلما كان يحدث من قبل.

من ناحية أخرى، لدى الجميع نقطة معينة في الحياة يتمركز حولها كل شيء مهما كان الزمان أو المكان، إلا أن الوصول إليها يمثل الأوج الأخير والشوكة المؤنّفة، فيبدأ بعدها التداعي الرتيب ولا تكون الحياة سوى مجرد استكمال لتلك الشوكة والفكرة العالية، فيكون من غير المناسب أن تُترك بقية القصة بدون إكمال، ولا يعلو كل ما يُكتب بعد تلك النقطة الفاصلة عن كونه مُجرد خاتمة كيلا تتشوّه جمالية تلك اللحظة المركزية التي ظهرت من قبل وانتهت.

لنوضّح كلامنا أكثر نأخذ آينشتاين كمثال. فألبرت حتمًا كان لديه الكثير من الأشياء لتروى. ربما كان يستيقظ باكرًا، وكان يتبع حمية غذائية نباتية، ويتابع تمارين الكارديو ولا يستخدم الشتائم في كلامه. إلا أن كل هذه الأمور التي ضربتها على سبيل المثال لم تكن نقطتهُ المحورية. نقطة ألبرت آينشتاين كانت الفيزياء، كانت النسبية، الفعل الكهرضوئي. تلك اللحظة التي ركب فيها القطار الذي لطالما ركبه عشرات المرات إلا أنه في تلك المرة فكّر قليلًا وسرح في خياله وقال: ماذا لو كانت سرعة القطار تفوق سرعة الضوء؟ كيف سيصبح المكان حينها؟ فكانت عندها النسبية. وكان بعدها كل شيء!

ربما لن يحدث ما حدث لو كان آينشتاين قد درس في كلية الطب لأن والده قال له: إني أخاف على مستقبلك يا بُني! أو لأن والدته أرادت أن تفخر به أمام قريبتها أم هانز هيرمان، أو عند جارتها أم شلايرماخر، وأرادت أن تغيظها بأنّ لديها ولد طبيب! ربما كان آلبرت سيدرس الطب وسيتخرج ويفتتح عيادة ويضع «قارمة» في شوارع برلين ويجعل المعالجة والكشفية يوم السبت مجانية. بينما سيكون هناك آينشتاين آخر في كون موازي تمامًا. آينشتاين ثاني درس الفيزياء وفكّر بها، آينشتاين ابتكر النسبية وخالف ثلاثة عقود من النيوتونيّة الجامدة. آينشتاين حصل على جائزة نوبل. آينشتاين آخر يبكي عندما يتخيل نفسه في مكتبه بين معادلاته وأوراقه ليقول بينه وبين نفسه: ماذا لو لم أدرس الفيزياء؟ ودرست الطب مثلًا؟

ذلك الآينشتاين قدّم من فرصته الضائعة قربانًا على مذبح الأمان. الأمان الوظيفي والمادي والاجتماعي الذي رسمت له عائلته.

«إنّ العقبة الأولى في تطوّر الفرد هي العائلة». – ليو تولستوي

لا يمكن أن نظلم العائلة كثيرًا، في النهاية لن تضع عائلتك رصاصة في فمك إن لم تلتزم بما يرونه. إلا أن رؤيتهم كما قلنا في البداية كانت لزمانهم، وعجلة التطوّر في كل شيء لا ترحم. وتبقى الموازنة سمة الأذكياء وهي ما يترتب عليك أن تفلعه، دون أن تُعطب طرف على حساب آخر.

«99% من الناس يعتقدون أنهم هم الـ 1% مِن الناس!».

نقطتي الأهم هي لدى مَن يعتقد أن لديه أو لديها شيء ما حقيقي في الداخل. حالة آينشتاين الذي درسَ الطب بدل الفيزياء. تخيّل لو حدث هذا الأمر فعلًا. وهو يحدث فعليًا، فربما يوميًا يولد الآلاف ليكونوا مشاريع للنبوغ في مجال ما، إلا أنه يتم إجهاضهم في مسارات أخرى قد فرضت عليهم جبرًا. هل لك أن تتوقّع كم الإمكانات المهدورة حينها؟ آينشتانات يدرسون الصيدلة. نيوتونات يدرسون الطب. شرودنجرات يعملون كموظفين في شؤون الطلبة. وهلم جرًا على فرص مهدورة وإمكانيات مُضاعة.

لكن غير كل هذا، ماذا لو أن أدولف هتلر مثلًا قُبلَ في كلية الرسم ولم يدخل مضمار السياسة؟ ماذا كان بإمكانه أن يحدث؟

السؤال بماذا لو مُجهد في إجابته وقد تكون صيغتهُ خاطئة لأنه يفترض تغيير الشروط الأوليّة دون تبديل المسيرة والنتائج بكاملها. إلا أنه بالنسبة لصاحبه قد يحمل كمًا كبيرًا من الندم، فماذا لو كان هناك نظرية نسبية صغيرة داخلك في المجال الآخر؟ أو كما قرأتها لدى أحدهم منذ مدة: ماذا لو كان كنزك الثمين يقع في ذلك الكهف الذي تخاف أن تدخله؟

الحياة قصيرة. لا تقضيها في أشياء لا تحبها وتفعلها غصبًا عنك. هذا لا يعني أن تُمضي حياتك لعبًا ولهوًا. لا لا، ليست هذه الفكرة. إنما دعوة صغيرة للنظر خارج الصندوق لاقتناص فرص في عالم أصبح عاجًّا بها. وكما قلت، تبقى هذه سمة الأذكياء وميّزة مَن يتمتع بتفكير غير نمطي وجامد.

لا تنتظر أكثر. ارمِ كتاب الطب الذي أمامك واسعَ نحو نسبيتك القادمة. لا تجعل من ذلك الشخص الذي يمثلك في كون موازٍ ينوح طويلًا. حاول أن تصل إليه، فالعمر قصير ولا يستحق أن تعيشه برتابة.