فادي عمروش
فادي عمروش

د

لا لا ، لا تتبّع شغفك !

“عملك سيشغل حيّزاً كبيراً من حياتك، والسبيل الوحيد لتشعر بالرضى عنه هو أن تصنع فيه ما ترى أنه عظيم، ولتفعل ذلك يجب أن تعمل فيما تحبّ”، لا بدّ أنّكم سمعتم تلك العبارة لـ ستيف جوبز – مؤسس شركة آبل- والتي ألقاها ضمن خطابه التحفيزيّ الشهير عام 2005 لخريجي جامعة ستانفورد، والذي فسّره المتابعون بتبسيط واختصارٍ مخلّ بالقول:اتبع شغفك. 

أثار ذلك التبسيط وتحويل الحكمة إلى مقولة (اتبع شغفك) شهيّة الأستاذ الجامعيّ  كال نيوبورت، الذي يرى أن نصيحة اتبع شغفك من أسوأ النصائح التي توجّه لمن هم في حيرة تحديد التخصص، أو اتخاذ قرار بتغيير المسار المهنيّ، وقام لهذا السبب بتأليف كتاب رائع اسمه (كن أروع من أن يتجاهلوك) والذي يوضّح فيه أنّ الشغف ليس كل شيء في الحياة المهنية.

بدأت فكرة -اتبع شغفك- في ثمانينيات القرن الماضي كنوع من المشورة المهنية، ولكنها أصبحت نوعاً من النصيحة الافتراضية للمخططين والباحثين عن الوظائف؛ حيث إنّه قد وصل الأمر إلى النقطة التي لم يعد فيها المرشدون المهنيون غير التقنيين يهتمون بشرح ماهية الاستراتيجية، ولا يعنيهم محاولة تقديم تفسير: لماذا يفترضون أنك توافق على أنها الاستراتيجية الصحيحة؛ ولو نظرنا بموضوعية إلى هذه الفكرة لرأينا أنها مفهوم جذّابٌ بشكل مذهل؛ كونها تخبرنا بأنه يمكننا الحصول على حياة عملية كما نحبّ، وعلاوةً على ذلك ليس من الصعب الوصول إليها، وحقيقة الأمر أنّ هذه العبارة “اتبع شغفك” والتي تعد نصيحة خادعة مشكلة فعلياً؛ فبالرغم من كونها عبارة جذابة بشكل مذهل، إلّا أنها نصيحة سيئة بشكل مذهل.

بالعودة إلى مصادر سيرة جوبز الذاتية المتوفرة لدينا اليوم، نراها تشير إلى أنّ أحداً لن يفكّر في أنّ ستيف جوبز كان متحمساً لبناء شركة تكنولوجية؛ ولم يكن لديه في تلك المرحلة من حياته شغفٌ لتغيير العالم من خلال التكنولوجيا؛ ولم يذهب إلى بيركلي لدراسة الهندسة الكهربائية، وهو ما كنت ستفعله في ذلك الوقت وذاك المكان إذا كنت شغوفاً بالإلكترونيات؛ ونرى بأنّه لم يذهب إلى ستانفورد أو جامعة كاليفورنيا لدراسة الأعمال، وهو على الأرجح ما كنت ستفعله لو كنت مكانه في ذلك الوقت وذاك المكان إن كنت شغوفاً جداً بريادة الأعمال. 

وهذه السيرة تجعلنا نراه مثالاً كلاسيكياً لشابٍّ يحاول معرفة ما تدور حوله الحياة، وما يريد أن يفعله في حياته في وقت مبكّر؛ بل إنّ قصة آبل بدأت بتعاون مع ستيف وازنياك من أجل تصميم وبيع الإلكترونيات في المعارض الصغيرة، والتي كانت مدخلاً لتحقيق ربح بسيط في البداية، ولكن هذا الشيء قادهم لاحقاً إلى تأسيس آبل بعد أن وضعت أمامهم فرصة كبيرة لتحقيق الكثير من المال، ومن بعدها بدأت مسيرة جوبز في عالم التقنية، ولكنه قبيل التأسيس لم يترك عمله، و يقدّم استقالته، ويغامر بكل مايملك، بل استمر إلى أن وجد فرصة حقيقية، ومن ثم بدأت حكاية جوبز التي مرّت بمراحل نجاح وفشل وطرد، ثمّ كانت عودته الأخيرة إلى آبل.

بعبارة أخرى: إذا عدنا إلى تاريخ جوبز فلن نرى لشغفه علاقة بالتقنية والإلكترونيات بأي شكل، وأزيدك من الشعر بيتاً بأنّه كان قبل تأسيس آبل ميالاً للجانب الروحي، وكان يعمل بوظائف ذات مدخول بسيط. لو اتبع جوبز شغفه لكان واحداً من المدرسين في أحد المعابد يعطي دروساً بما يتعلق بالجانب الروحي؛  وما حدث أنّه وخلال تلك التجربة الروحية التي مرّ بها قد اقتنص الفرصة التي لمحها،  واستمرّ بتطوير نفسه ليصبح رجل أعمال وريادياً بارزاً. 

إنّ افتراض أنّ حبّ شيء ما يعني أنه من المناسب أن تتخذه مهنة هو ضرب من ضروب المخاطرة غير المحسوبة، ولعلّ أبرز الأمثلة على ذلك هواة التصوير الذين أسسوا أعمالاً تجارية، وانتهى الحال بهم إلى ضائقات مالية كبيرة.

نعم يوجد فرق كبير بين أن تعمل في مجالٍ أنت تجيده وتحبه في هذه المرحلة وبين اكتشاف أنك تحب مجالاً ما فتقول لنفسك: “لحظة أنا أحب ذلك .. لو اتخذته مهنةً لأحببت عملي”

يقول كال: “لا تتبع شغفك .. بدلاً من ذلك اجعل شغفك يتبعك في أثناء سعيك بأن تصبح جيدًا جدًا حتى لا يتجاهلك الآخرون”  وفي النهاية لا مفرّ: يجب أن تصبح خبيراً بشيء ما قبل أن تبدأ الأشياء الكبيرة بالظهور، ولن يفيدك الشغف في أن تصبح خبيراً، وإنّما العمل الجاد سبيلك لامتلاك الخبرة اللازمة لتحقيق النجاحات الباهرات.