ولاء عطا الله
ولاء عطا الله

د

أن تكون غير مرئي!


“أن تكون غير مرئي كأن تحوّل نفسك تدريجياً لكائن مهمش، وما أروع هكذا حياة!”

 جملة كهذه مستحيل كانت ستطوعني نفسي ويدي على كتابتها قديما، بل أن مفردة الهامش ذاتها لطالما لُصقت بحالاتي الأشد سلبية واحباطا، فكنت أرى نفسي كهامش خطته الحياة دون قصد وبشكل ساخر – داخل معتركها –  فَنُسي؛ فلا العارفين ولا الجاهلين قد لمحوه، وإن فعل أحدهم، فسوف يتجاوزه كأنه خيط من دخان. ويمضي.. وتمضي الحياة والهامش يعوي وحيداً في إنتظار أي التفاتة تخبره أنه مرئي، وأن له دور في رسم منعطفات الحياة؛ لكنه يعرف كينونته، يدرك ماهيته، لهذا فقد سلَّم في أمره حتى نسى هو الآخر وجوده المتخلخل!

العودة من رحم النسيان..

كنت أظن أن لا عودة من النسيان، خاصة إذا كان هذا النسيان يطوي في جوفه هامش ركيك، بالكاد كان يلوح كل فترة وأخرى كيلا يعد من الأموات؛ وهذه المرات القلائل كانت تغير فيه أشياء دون أن ينتبه. الشيء الوحيد الذي لاحظه.. أن تلك النجوم التي كان يراها مركزا للكون ما هي إلا هوامش مثله تماما، وما كان يفرقها عنه أنها استطاعت خلق هالة وهمية حول مداراتها، كي تخفي عيوبها وتشققها. واتضح له فيما بعد أن هذا هو التصرف الطبيعي على الأقل!، فلو لم يخفون عيوبهم لانهارت أساسياتهم ولم يكن ليتبقى منهم سوى ركام، وتلك الأخيرة من المستحيل أن تسعف أحد في شيء!

يقولون.. عندما يعود المرء من مغامرة كانت ستهلك حياته، أو تجربة كانت نسبة نجاحها متدني، لا يعود المرء كما كان أبدا. ستغلب عليه حالات لم تكن مألوفة له ذات يوم. كعدم الاكتراث، الانطواء الهادئ وليس المضجر للنفس، وطمأنينة شاملة. وتكون شاملة لأنه في كل الحالات لا يكترث لشيء! فهو ليس بحاكم هذه الحياة ولا مراقباً إدارياً لحالة الطقس المتقلب. كله سيان عنده، حتى عندما يتم الاحتفاء به كونه الناجي الوحيد لا يكترث أيضاً.

“احذروا من هؤلاء الأشخاص، فهم أصبحوا يملكون قدرة خفية، باستطاعتهم استخدامها لينالوا كل ما يريدون!”

ربما هذا صحيح، لكن أتعلمون شيء؟ أنهم عندما يستخدمونها فهم يمارسون حقهم الطبيعي الواضح منذ أن خُلقوا، لا تلك المزينة بالأوهام والزيف، ستلمح التخبط والتناقض والخوف والضعف في كافة طرقهم، عكس الذين يخفون ركامهم تحت طبقات من المثالية المصطنعة.

الذين يتباهون بركامهم غير محبوبين، لكنهم مهابون أيضاً من قبل الجميع، فليس هناك ما يستدعي الانتقاص أو الاستهزاء من قدرهم!

اختفوا، فالاختفاء به راحة و قوة!

اليوم أنا أحدثكم من قلب الهامش، من أقصى زاوية لا يمعكن أن تلمحها أبصاركم الحادة. لدي صديق ذو شخصية كاريزمية، لاحظت اختفاءه منذ فترة فسألته، وأجاب “أن الاختفاء جيد، به راحة!” صديقي هذا ليس ممن يميلون أو يتحدثون عن هوس العزلة مثلي، بل أنه مرح ولطالما أحب الظهور. فقلت له أن الاختفاء جيد أحياناً، لكن في حالتي فهو أغلب الوقت، أنه يجعلني أرى نفسي جيداً من الداخل، فالحياة الحقة وجدتها تكمن بين تلافيفه. لأنك في وسط الازدحام لن تُرى ولن يستمع إليك أحد، لن تستطيع انجاز شيء فكثرة المارة ستدفعك نحو تيارهم رغما عنك، ولكنك أيضاً تؤمن بتفردك؛ لهذا لا مفر من الرحيل عن مضمارهم المتهالك. بالتأكيد هذا ما حدث لصديقي، كما حدث لي من قبل.

ولا تظنوا أن الاختفاء ضعف، هل رأيتم مجموعة تتنافس على من سيختفي أولا؟! فاجأتني صديقة يوماً – أثناء تعكر مزاجي بكآبة الشتوية – بإرسال لقطة شاشة تحوي منشور كتبه أحد أساتذتي يهنئني فيه بوصول نصي للقائمة القصيرة من مسابقة ما معروفة. دُهشت أولا من وصول نصي لتلك المرحلة، ودُهشت ثانية لأن أستاذي تذكرني رغم أنني مختفية عن عالمهم الافتراضي والواقعي. ثم عرفت حينها أن النجاح ليس مقرونا بالظهور، كما أنني أحسست بذلك الهامش وهو يغمز لي بمكر! وبين الهامش الأول الذي عانيت كثيرا بسببه، وذات الهامش الذي مضيت نحوه لاحقا بمحض إرادتي. أدركت أنه لا أروع من كون الإنسان مهمش، بسيط، لا ينتظر شيء عدا نتائج سعيه وجهده.