فادي عمروش
فادي عمروش

د

تسوية النزاعات اللامركزية

تعدُّ مسألة تسوية النزاعات اللامركزية محلَّ جدلٍ كبيرٍ إذ تشكِّل أحد أهم مكونات الحوكمة اللامركزية، في الوقت الذي غالباً ما تستحوذ فيه الجهة المسؤولة عن تسوية النزاع على صلاحياتٍ مطلقةٍ في الحوكمة المركزية، بمعنى آخر يكون الحكم الصادر عنها موضع شك!

تكون المجتمعات الملتزمة بحماية حرية أفرادها واستقلاليتهم مضطرَّةً إلى حماية ذاتها من فساد المحاكم المركزية التي تضع قوانين فعليَّة تسوِّي بموجبها جميع النزاعات. يعني ذلك أنَّ جميع الأنظمة الديمقراطية بحاجة إلى بناء نظامٍ لا مركزيٍّ يحافظ على نزاهتها وشفافيتها، ويكفل تسوية النزاعات ولا سيما الشخصية منها بشكلٍ عادلٍ يحفظ حقَّ الجميع.

يناقش الكاتب دانيال لاريمر في مقال مميز هذه المسألة المهمَّة باستفاضةٍ، مُحاولًا عدم إغفال أي تفصيلٍ ذي علاقةٍ بها للوصول إلى طرح رؤيةٍ واضحةٍ للقرَّاء.

نمو المجتمع مقابل تفكُّك المجتمع

إنَّ أسهل حلٍّ في تسوية أي نزاعٍ بين شخصين هو الحكم بانفصالهما؛ النقطة التي لم يغفلها الكاتب في كتابه “نحو كائنات متساوية“، ووضع قاعدةً تقول بوجوب تحقيق الاستقلالية الفردية من خلال التعاون بين جميع الأطراف، وبناءً عليه، من يفتقر إلى هذه المهارة سيكون عبداً وتابعاً لمن يمتلكها.

 ويؤكِّد لاريمرعلى أهميَّة التوصُّل إلى إجماعٍ حول وضع آلية لتسوية النزاعات دون فرض الانفصال. بمعنى أن يكون المجتمع متماسكاً وقويَّاً ويحتوي جميع أفراده مهما كانت أخطاؤهم، ويرفض أي نقاشات حول الأحقية في البقاء في المجتمع، فالمجتمع ملكٌ لجميع أفراده بصرف النظر عن أفعالهم.

الاحتكام إلى السلطة، ومن يقاضي القضاة؟

يطرح لاريمرعلىمسألة الاحتكام إلى السلطة -المحكمة العليا أو الديكتاتور- بكونها ثاني أكثر أشكال تسوية النزاعات شيوعاً، معتبراً إياها وسيلةً فعَّالةً في تمكين القضاة الفاسدين، ممَّا يفتح الباب على مصراعيه أمام الفساد حتَّى ينخر مفاصل القضاء كما يحلو له.

عندما يقع خلاف بين أخوة يلجؤون إلى والديهم لتسوية النزاع بينهم، يتخلّون بكامل إرادتهم عن حقِّهم في الاتِّفاق لصالح رأي أبويهما، والأمر ذاته على المستوى المجتمعي، بمعنى التخلِّي عن الاتفاق المجتمعي والاستعاضة عنه بالرأي الشخصي للسلطة.

يجد لاريمر بعد مروره بالعديد من التجارب مثل الطلاق، والتأمُّل، والتحكيم، والدعاوى الجماعية أن لا حاجة أبداً إلى تمكين القضاة، ومنحهم السلطة لإصدار أحكامٍ تعسُّفيَّةٍ، ويكفي الالتزام بدرجات الحرية الموجودة في جعبة القاضي قدر الإمكان، مؤكِّداً أنَّ المحامين إن كانوا نزيهين فهم يعلمون ذلك حقَّ المعرفة وينصحون موكِّليهم دوماً بتسوية نزاعاتهم خارج أروقة المحاكم لأن أحكامها لا يمكن التنبُّؤ بها.

 ويوضح السبب الرئيس وراء تجنُّب الاحتكام إلى السلطة في أنَّ هذا النوع من التسويات يقوِّض الاستقلالية النسبية لأفراد المجتمع، فمن يقاضي القضاة؟ ومن يراقب الحاكم؟ كما أنَّ اللجوء إلى السلطة لتسوية النزاعات هو تنازلٌ صريحٌ بحقِّ المساواة لصالح القضاة أو السلطة المخوَّلة، وهنا يحضر التساؤل التالي: ماذا يمكن أن تفعل الدولة إذا رفضت المحكمة العليا النظر في موضوع النزاع أو تطبيق القانون؟ من يختار القضاة؟

تقسيم الكعكة

طرح لاريمر في كتابه نحو كائنات متساوية مثالاً لنزاعٍ بين أخوين على تقاسم كعكةٍ، يسعى كلاهما للفوز بالحصة الأكبر منها، ويلجآن في النهاية إلى والديهما -السلطة- لتقسيمها وتوزيعها بينهما، ويكونا في هذه الحالة عرضةً لتحيُّزٍ من دون إرادة، أو تكاسلٍ من جانب والديهما، وتنتهي الأمور في الحالتين إلى حلٍّ لا يُرضي الطرفين، أو لطرف على حساب الآخر.

يقترح لاريمرحلاً لتسوية الخلاف يتمثَّل في توزيع أدوار التقسيم والاختيار بينهما عشوائياً، أي يقسم أحدهما الكعكة، ويختار الآخر الحصَّة التي يشاء، وبسبب علم الأخ الذي يتولَّى التقسيم حرص أخيه على اختيار الحصَّة الأفضل، يحرص على توخِّي الدقَّة في تقسيم الكعكة بشكلٍ متساوٍ، وتخلص الأمور برضا الطرفين دون الحاجة إلى توجيه اللوم إلى أي طرفٍ ثالثٍ. يهدف الكاتب من هذا المثال أن يييِّن إمكانية الاستغناء عن الاحتكام إلى السلطة.

المبادئ المقترحة لتسوية النزاعات

يقول الكاتب إنَّ تطبيق مبادئ تقسيم الكعكة ليس بالأمر السهل عندما يتعلَّق الأمر بتسوية النزاعات اللامركزية العامَّة على المستوى المجتمعيِّ، موضِّحاً أنَّ أي خلافٍ يقوم على طرفين المدَّعي الذي يطالب بتعويضٍ، كأن يطالب بتعويضٍ بقيمة مليون دولار من الطرف الآخر وهو المدَّعى عليه عن الألم الذي سبَّبه له بتقديم فنجان قهوة ساخن جدَّاً له.

تعطي الأنظمة القضائية التقليدية للقاضي أو لهيئة المحلفين سلطة تحديد قيمة التعويض التي تتراوح بين الصفر والمليون دولار حسب ما يجدونه “عادلاً”، فيمثل النزاع هنا ألماً، ومعاناةً، وتعويضاً، أي لا يمثل تقسيم قطعة كعك فقط.

يقترح الكاتب حلَّاً بديلاً يتمثَّل بسحب السلطة من القاضي أو هيئة المحلفين بشأن تقسيم الكعكة، ومنحها لطرفي النزاع -المدَّعي والمدَّعى عليه – ثمَّ تختار هيئة المحلفين المنتخبة عشوائياً بين العرضين، وتُلغى في هذه الحالة احتمالية فرض الحل غير المرضي من قبل القاضي أو الهيئة، ويُجبر طرفا النزاع على التوصُّل إلى حلٍّ يرضي جميع الأطراف.

في مثال القهوة، إن اختارت هيئة المحلفين أي من الاقتراحين سيكون انحياز لطرف على حساب طرف، ويكون كلا الاقتراحين تقسيم غير عادل الكعكة، وعليه، فمن الحكمة أن يقلل المدعي مبلغ التعويض؛ الحصول على البعض أفضل من خسارة كل شيء، ويعرض المدعى عليه دفع تعويض مناسب للطرفين، وبناء على ذلك، تحكم الهيئة حكما مرضياً للطرفين على حد رأيها لا رأي الطرفين.

في القضايا التقليدية، يتنازع طرفا القضية للحدِّ الأقصى محاولين الفوز بودِّ القاضي أو هيئة المحلفين، للتوصُّل إلى حلٍّ يرضي الجميع، ويكون عادلاً ممَّا يفتح الباب للفساد والرُشا.

في المقابل، يسعى الطرفان -حسب اقتراح الكاتب- إلى التوصُّل إلى حلٍّ يرضي الطرفين، ويكون قرار الهيئة مبنيَّاً على الطرفين، ويمثِّل حلَّ الثلثين زائد واحد، ولكن تكون إمكانية الوصول إلى حلٍّ ثالثٍ في عدم توصُّل هيئة المحلفين لاتِّفاقٍ، وفي هذه الحالة تطبَّق العشوائية للاختيار بين المقترحين.

النزاعات حول العضوية المجتمعية

يتطرَّق الكتاب إلى مسألة العضوية، ويرى أنَّ المجتمعات تحتاج إلى وضع آليات للانضمام إليها أو الاستبعاد منها، وبناء عليها تُعطى الامتيازات للأعضاء الذين يعملون على دعم المجتمع، ويُحرم غير الأعضاء من أي مساعداتٍ يقدِّمها المجتمع، ويخسرون الثقة.

ويضيف الكاتب أنَّ المجتمعات الفعَّالة تسعى إلى جعل العضوية ذات قيمة، ولكن المجتمعات لا تهتم بهذه النقطة ما يؤدِّي إلى تفكُّكها أو فشل تأسيسها. مشيراً إلى أنَّ وجود هذه القيمة يفرض جدِّيَّةً أكبر على مسألة الانضمام إلى المجتمع، ووضع شروط أكثر صرامة.

يطرح لاريمر مثال المجتمعات الرقمية فالانضمام إليها مفتوحٌ وليست هنالك أي سياسة استبعاد مُتَّبعة، ومن حقِّ الجميع شراء الرموز الخاصة بها، ولا يحقُّ لأحدٍ سلبهم إياها، وتخضع حوكمة المجتمع إلى البيع لأفضل عطاءٍ يُقدَّم، وتكون الكارثة عندما يكون صاحب العطاء فاسداً، ما يعني اضطِّرار الجميع إلى البيع أو الخروج من المجتمع، موضحاً أن من يقدِّم مثل هذه العطاءات هم فقط الذين أفسدوا النظام المالي الحالي، وسيطروا على الصحافة المطبوعة وهو ما حدث مع موقع steemit.com وفق تحليله.

كان  Steemit في البداية مجتمعاً مزدهراً ينشر ملصقاتٍ ذات محتوى جيِّد ينسجم مع قوانين الموقع، ثمَّ بدأ المال -لسوء الحظ- يجذب لاعبين جدد يعلمون جيِّداً نصوص القوانين، ويعرفون بدقَّة كيف يكسبون المال بطرائق غير شرعية، وانتهى الحال بطرد جميع المتمسِّكين بقوانين الموقع من المجتمع، أي أولئك الذين لا يقبلون بالفساد، وأيضاً انتهى الحال بفشل Steemi  بسبب عدم قدرتها على الوصول إلى إجماعٍ بشأن من يجب أن يُبعد من المجتمع.

يؤكِّد الكتاب على حاجة المجتمعات إلى جهازٍ مناعيٍّ يكون عبارة عن عمليَّة لتحديد الأفراد السامين وغير الصالحين، ثمَّ إبعادهم من المجتمع، وبالتالي تحقيق ازدهار المجتمع وتطوره.

يشير الكاتب إلى مجتمع إيدن (جنة عدن) الذي وضع آلية لدعوة الأفراد للانضمام إليه، مع العلم أنَّه دائماً هنالك مجال أمام الفاسدين للانضمام، وهم بدورهم يدعون آخرين على حساب الجيدين واستبعادهم، موضِّحاً أنَّ الفساد ربَّما يأتي في أشكال عدَّة منها عدم احترام قوانين المجتمع، على سبيل المثال.

يهدف مجتمع إيدن إلى أن يكون متماسكاً، ويعمل جميع أفراده بما ينسجم مع الإجماع المحلي، ما يمكِّن المجتمع من تقديم الامتيازات لأفراده بمساعدة جميع الأفراد بقيامهم بواجبهم اتجاه المجتمع. في المقابل، يخسر المحتمع غير المتماسك احترام الجميع في الداخل والخارج، وبالتالي خسارة سلطته وقيمته واهتزاز صورته، لذلك يضرُّ كل عضو لا يحترم مجتمع إيدن وقوانينه بنزاهة المجتمع وجميع أفراده، علماً أنَّ الانضمام إلى المجتمع هو مسألةٌ طوعيةٌ، ولكن مشروطة في الوقت ذاته.

عملية تسوية النزاعات

يتحدَّث الكتاب عن حقِّ أعضاء المجتمع -في أي وقتٍ- في المطالبة بمساعدة المجتمع في تسوية نزاعاتهم المحلية، مع الاعتراف في الوقت ذاته بأنَّ بدء عملية النزاع بحدِّ ذاتها ربَّما يلحق ضرراً بالآخرين المتَّهمين بارتكاب أفعال طائشة تضطَّرهم إلى صرف وقتهم ومالهم لتبريرها، ويعني هذا ضرورة أن يكون هنالك ما يكفي من الحافز لرفع دعاوى بشأن الأفعال الطائشة.

 وبناء عليه، يجب على العضو الذي يرغب في رفع دعوى ضد عضوٍ آخر، أن يجد في البداية ثلاثة أعضاء آخرين في المجتمع مستعدِّين لدعم شرعية النزاع وعدالة التسوية المقترحة، فمثلاً، إذا كنت تريد المطالبة بتعويضٍ بقيمة مليون دولار عن القهوة الساخنة، عليك أن تجد ثلاثة أعضاء آخرين في المجتمع يدعمون مطلبك ويجدونه عادلاً.

ويضيف الكتاب وجوب تقديم العضو ضمانات كافية (أموال) لتغطية تكاليف هيئة المحلفين في حال تبين أن التسوية المقترحة أقل عدلاً من اقتراح المدَّعى عليه، وعندئذٍ إمَّا يوافق المدَّعى عليه على الاقتراح ودفع التسوية، وتجنُّب تكاليف هيئة المحلفين، أو يرفض الاقتراح ويقدِّم مقترحاً بديلاً مع التكفُّل بجميع نفقات هيئة المحلفين.

 وبمجرد أن تصدر هيئة المحلفين حكمها، يدفع الطرف الخاسر قيمة التسوية المقترحة أو يُستبعد من المجتمع تلقائياً، ويستعيد الطرف الرابح للدعوى الضمانات المقدَّمة لهيئة المحلفين، أمَّا إذا لم تصل هيئة المحلفين إلى إجماعٍ؛ يسترجع الطرفان ضماناتهما، ولا تحصل هيئة المحلفين إلا على رواتبها في حال التوصُّل إلى توافقٍ في الآراء.

اختيار هيئة المحلفين والتعويضات

يتحدَّث دانيال عن مجتمع أيدن الذي يطبّق عملية تجميع عشوائية للأفراد من أجل المشاركة في الانتخابات واختيار ما يصل إلى 20 ٪ من الأعضاء ليكونوا ممثِّلين منتَخبين على أساس النزاهة والثقة لتمثيل المجتمع والحصول على ميزانيةٍ، ثمَّ ينضمُّون تلقائيَّاً إلى هيئة المحلفين.

عند الاختيار العشوائي لأداء العمل الموكَل إليهم، يحصل المحلفون على تعويضٍ ثابتٍ لتقديم تصويتٍ لأحد المقترحين، وعليهم الظهور والإدلاء بأصواتهم في الوقت المناسب أو تعويض المجتمع عن فشلهم في الظهور، وتحفيزاً لهم على أداء واجبهم، يرفع مجتمع أيدن تكلفة عدم الظهور، التي يقترح الكاتب أن تكون ضعف الدخل الذي سيحصلون عليه لو ظهروا.

يكمل لاريمر توصيف العملية أنَّ على هيئة المحلفين إجراء المشاورات في مكالمةٍ مسجَّلةٍ يعلنون فيها تصويتهم، وتكون في هذه الحالة مثل هيئةٍ من “القضاة” لا يمكنها الاختباء وراء أصواتٍ مجهولةٍ، إذ يهدف مجتمع أيدن من تسجيل المشارورات إلى ضمان مشاركة جميع المحلفين بنشاطٍّ وإبداء رأيهم بشأن أي من هذين الاقتراحين أكثرعدلاً.

 وأخيراً، يعلِّق الكاتب أنَّ من دون هذه العملية، يصعب معرفة متى تفوِّض هيئة المحلفين عملها إلى الروبوت، إذ أنَّه في لجنة تحكيمٍ مكوَّنةٍ من خمسة ممثِّلين، يجب أن يوافق ثلاثة أعضاء، أو يكون اختيار النتيجة عشوائيَّاً باستخدام تقنيات يمكن إثباتها بشكلٍ عشوائيٍ.

بنود التسوية

يوضح لاريمر أنَّ اقتراح التسوية ربَّما يتضمَّن أي أجراءات مقترحة يجب على الطرف الآخر اتِّخاذها، وكلَّما كان الإجراء المقترح أكثر موضوعية وقابلية للقياس، كان ذلك أفضل، مشيراً إلى إمكانيَّة إضافة تعويض لأطرافٍ ثالثةٍ أيضاً.

يمكن فرض عملية جمعٍ وتحقُّقٍ تلقائيٍّ من النقل حسب الحد الذي تطلب فيه التسوية نقل رموز الشبكة، ومع ذلك، ربَّما تنطوي التسوية -في معظم الحالات- على اتِّخاذ إجراءات في العالم الحقيقي لا يمكن التحقُّق من صحَّتها مباشرة على السلسلة.

ويتابع لاريمرالتوضيح بأن يجوز للمدَّعي والمدَّعى عليه اقتراح ملخَّصين يٌسجلان في السجل العام، أحدهما مرتبطٌ بالمدَّعي والآخر بالملف الشخصي للمدَّعى عليه، ويؤثِّر على سمعتهم إذا كان فعل الإضرار بالسمعة مبرَّراً، مؤكِّداً على ضرورة الاهتمام بالملخَّصات بعد ملاحظة أنَّ معظم الأفراد يرجعون إليه فقط، ما يستوجب أخذ المحلفين في الاعتبار عدالة الملخصات عند تحديد التسوية الأكثر عدلاً.

يشير لاريمر أيضاً إلى أهمية ضمان حسن الأداء. فمثلاً، ربَّما تتطلَّب التسوية نقل حساب GitHub إلى مستخدمٍ آخر، وبسبب عدم إمكانية التحقُّق في السلسلة تتطلَّب التسوية أيضاً نشر سندٍ وحفظه في الضمان حتَّى يتحرَّر، ويعد عدم نشر السند أو الحصول على قبولٍ متبادلٍ لإكمال المهمَّة تقصيراً موضوعياً في التسوية.

تطبيق التسوية

تنتهي العملية بإصدار الحكم الذي يرضي -نظريَّاً- جميع الأطراف إذا كانوا راغبين في البقاء في المجتمع، وتغلق القضية باتِّفاق الطرفين على تنفيذ جميع شروط التسوية، أمَّا إذا لم يوافق أحد الطرفين على ذلك، يعني ذلك بدء نزاعٍ جديدٍ يختلف عن النزاع الأصلي في أنَّ بنود التسوية المسموح بها تقتصر على ما يمكنه التحقُّق بشكلٍ موضوعيٍّ باستخدام سلسلة الكتل.

يفترض الكاتب أن تكون التسوية الأصلية ذكرت أنَّ على المدَّعى عليه تسليم أوراق الاعتماد إلى حسابات وسائل التواصل الاجتماعي. الأمر الذي لا يمكن للمدَّعي والمدَّعى عليه الاتِّفاق عليه، ويحقُّ للطرفين بعد ذلك تقديم طلب تنفيذ مع تعويضاتٍ ماليةٍ تدفع بعملة إيوس EOS، يدفع الطرفان التعويضات المقترحة، ثمَّ تقرِّر هيئة المحلفين أي قرار أكثر عدلاً بالنظر إلى الأدلَّة المقدَّمة من الأطراف، ثمَّ يدفع الطرف غير الملتزم التعويض المقرَّر بعملة إيوس بحلول الموعد النهائي، أو يُستبعد من المجتمع تلقائياً.

تطبيق معايير المجتمع

يشير لاريمر إلى دور المجتمع الذي يطالب أعضاؤه بفعل أمور متعدِّدةٍ لا تحمل أي طابعٍ شخصيٍّ، ولا تضرُّ بشكلٍ مباشر بأي عضو معين. على سبيل المثال، يفرض المجتمع “قواعد لباس” حسب اللوائح التي تسنها عملية الديمقراطية الأغلبية أي ثلثين زائد واحد، من الذي سيبدأ نزاعاً مع منتهك “قواعد اللباس”؟  لا أحد.

ثمَّ يوضح الكاتب أنَّه في ظلِّ الحكومات الفاسدة الحالية يتحمَّل المسؤولون الحكوميون مسؤولية تحديد الأشخاص الراغبين في توجيه اتِّهاماتٍ جنائيةٍ ضدهم، مؤكِّداً أنَّ هذا الأمر بالإضافة إلى التنفيذ الانتقائي يخلقان نظاماً قضائيَّاً تعسُّفيَّاً غير متَّسقٍ وغير متوقَّعٍ. فما فائدة القانون الذي لا يطبِّق شكلاً متَّسقاً وموثوقاً؟

ويوضح أنَّه يحقُّ لجميع أفراد المجتمع طلب تنفيذ القوانين ضدَّ المنتهكين، ما دام انتهاك اللوائح الداخلية للمجتمع يضرُّ بجميع أفراده، وبتطبيق ذلك على “قواعد اللباس”، يحقُّ لك بدء النزاع مع المنتهك.

يرى لاريمر أنَّ بدء النزاع يكون محفوفاً بالمخاطر! وربَّما ينتهي بالخسارة، ويتحمَّل الطرف الخاسر تكلفة النزاع والأضرار التي لحقت بالمتَّهم زوراً، ولذلك يقترح الكاتب لتفادي حدوث ذلك الالتزام والتقيد بمعايير المجتمع.

طبعاً سيكون هنالك امتناعٌ عقلانيٌّ عن التصويت، وللتغلُّب على هذا يقترح الكاتب أن يقدِّم المجتمع حوافزاً للأعضاء للمخاطرة برفع نزاعٍ نيابة عن المجتمع، ويمكن تحقيق ذلك من خلال تمرير اللوائح التي تحدِّد غرامة انتهاك “قواعد اللباس” ومكافأة لكونك أوَّل من قدَّم الضمانات لتغطية تكلفة هيئة المحلفين.

ويفضِّل منتهك “قواعد اللباس” في معظم الأوقات دفع الغرامة على إرسال الضمانات المطلوبة لرفعها إلى المحكمة، ويوضِّح الكاتب أنَّ المخالف المزعوم حقَّاً يحاكم فقط إذا ثبت أنَّ المدَّعي يقدِّم ادِّعاءات كاذبة. في هذه الحالة، يطالب المخالف المزعوم تعويضات من المتَّهم الكاذب.

الخطر المزدوج

عندما يبدأ أحد أعضاء المجتمع نزاعاً مع عضوٍ آخر بشأن جرائم ضد المجتمع، يجب عليه إثبات أنَّه أوَّل من فتح نزاعاً بشأن هذا الانتهاك، ويحقُّ للمدَّعى عليه أن يستخدم الأحكام السابقة لهيئة المحلفين على هيئة دافعٍ إيجابيٍّ ضدَّ تكرار المطالبة، ويشير دانيال هنا إلى أنَّ جميع النزاعات تتطلَّب ما لا يقل عن ثلاثة أطراف أخرى للتصديق تكون مسؤولة عن شهادتهم تحت القسم ، فالنزاع ليس محاولة الخطر المزدوج.

يتابع الكتاب مناقشة المثال مفترضاً أن يحاول المدَّعي والمدعى عليه التواطؤ لانتهاك اللوائح الداخلية، ثمَّ استخدام قاعدة الخطر المزدوج لمنع الآخرين من بدء نزاعٍ. في هذه الحالة، يستطيع المدَّعي والمدَّعى عليه إنجاح الأمر باقتراح تسوياتٍ غير عادلة للمجتمع، ويفرض على هيئة المحلفين الموافقة على تسويةٍ غير عادلة.

يمثل هذا نوعاً جديداً من النزاعات. يحقُّ في هذه الحالة لأعضاء المجتمع الآخرين فتح نزاعٍ ضدَّ الأطراف المتواطئة، وتحدِّد هيئة محلفين عشوائياً من الممثِّلين المنتخبين إذا كانت التسويات المقترحة والمقبولة تتماشى مع روح المجتمع أو كانت محاولات تخريب المجتمع، ويحتمل أن يكون أعضاء هيئة المحلفين الأصلية الذين يشهدون الإساءة، هم الذين يقدِّمون نزاعاً جديداً مع المدَّعي، والمدَّعى عليه.

لماذا تخضع نفسك إلى هذه العملية؟

يؤكِّد لاريمر أنَّ لا أحد يحب النزاعات، أو تحمُّل مسؤوليَّات جديدة، أو أن يخضع إلى أفرادٍ آخرين يقاضونه، فلماذا تنضمّ إلى مجتمعٍ يضيف “طريقة أخرى” للدخول في نزاعٍ؟

لا يحقّ لأيِّ فردٍ أن يحصل على الاستقلال دون دعم مجتمعٍ مستقلٍّ قادرٍ على حلِّ نزاعاته الداخلية. لذلك، يجد الكاتب أنَّ كلَّ فردٍ في مجتمع إيدن يلجأ إلى محاكم الولاية لمقاضاة أفراد المجتمع الآخرين يجب أن تسقط عنه العضوية تلقائياً. علاوة على ذلك، يجب على مجتمع أيدن الدفاع عن أحزابه إذا خضعت إلى أي مقاضاةٍ أمام محاكم الولاية.

يتمثَّل الغرض من تشكيل المجتمعات المحلية في استرجاع القوَّة والسلطة من الحكومات الفاسدة، ورفض إجراء المحاكمات الفاسدة، وتطبيق إجراءات جديدة، ويطرح دانيال التساؤل التالي: من الجهة التي تتمتَّع بمصداقيةٍ أكبر، أفراد المجتمع الذين يتشاركون القيم والمعتقدات ذاتها، أم المحاكم الحكومية الفاسدة التي تعمل في خدمة مصالح الحكومة؟

في النهاية، يخلص لاريمر إلى أنَّ السبب الأساسي وراء المشاركة في تسوية النزاعات المجتمعية واجب العضو اتجاه المجتمع مقابل الحصول على الامتيازات والمكاسب التي يقدِّمها المجتمع لأعضائه، مع الإشارة إلى أنَّ مكانة الفرد داخل المجتمع هي الأمر الوحيد الذي يكون في خطرٍ بسبب الموافقة على تسوية النزاع المجتمعي. هو مكانتك في المجتمع.

ختاماً

 يتَّجه العالم نحو اللامركزية بتباطؤٍ ولكن بخطى ثابتة، ويستدعي الأمر منَّا عملاً جادَّاً لبناء الأساس الصحيح والذي تعد تسوية النزاعات أحد أركانه الأساسية. أنصحكم بالاطلاع والغوص أكثر في هذا الموضوع عبر قراءة ترجمتي القادمة لكتاب “نحو كائناتٍ متساويةٍ” حجر الأساس واللبنة السليمة في رحلتكم المعرفية، وتبحُّركم في جوهر المستقبل القادم.