عبدالرحمن عرفة
عبدالرحمن عرفة

د

مجتمع الاحتراق النفسي.. لماذا ينهار الإنسان الحديث؟

شاعت الكثير من المصطلحات النفسيّة في الآونة الأخيرة، واختنقت المعاجم من طوفان الاضطرابات الجديدة التي بحاجة لاصطلاحات كي توصّف حالها وترتب وضعها، ولعلَ في سقف القائمة، ما بات يُعرف بظاهرة ومتلازمة الاحتراق النفسي، والتي يتفرّع منها بدرجة أقل الاحتراق الوظيفي.

شخّص الكثيرون هذه الظاهرة وردوها لكمٍ من الأسباب الظاهرة والغائرة، إلا أن للفيلسوف المعاصر «بيونج تشول هان» رأي آخر يستطرد في شرحهِ ضمن كتابه قليل الصفحات كثير العبرات، فهو يرد الظاهرة في جذرها للمجتمع بكامله؛ المجتمع الذي يتخذ من «ذات الإنجاز» كأفق أعلى لا بد مِن التسامي المستمر لهُ، واصفاً ذلك بأن الاحتراق النفسي يحدث كنتيجة مباشرة لارتفاع درجة حرارة الأنا؛ وتضخم الذات المرضي.

وعلى هذا المبدأ، يبوّب فكرته على عدّة أبواب أولها ما يُسمى بـ «السلطة العصبية».

يضرب هان مثالاً لفهم هذه النقطة الجهاز المناعي عند الإنسان، فيقول أن الجهاز المناعي لا يفرق بين ما هو عدو وما هو صديق، يهاجم جهاز المناعة الدخيل بغض النظر عن قيمته التي يحملها، يهاجم جهاز المناعة الآخر بسبب «آخريّته» لأنهُ دائماً هناك من هو «أنا» ومن هو «آخر». والإنسان الحديث بوصفهِ بنية مناعية كان قد اعتاد نفس النمط إلى حدٍ قريب، لكن العصر الحديث قد نسفَ هذا المبدأ من جذره.

يأتي العصر الحديث الذي طمسته العولمة ليلغي فكرة «الآخر» من جذرها، فيصبح الجميع ضمن فضاء عام لا مكان للحدود والفواصل فيه.

كنتيجة لذلك، ولأن لجهاز المناعة وظيفة لا بد منها، فمن غير الطبيعي أن يتعطل عن عمله ويتقاعد. فيحدث ما هو متوقع حدوثه، يبدأ الجهاز المناعي بمهاجمة نفسه. ويطلق على هذه العملية مصطلح «الإيجابية المفرطة». فبعد انتهاء الحالة المرضية الحديّة القديمة التي تفصل بين ما هو نحن وما هو آخر، أصبحَ العالم أكثر تنوعاً وإيجابيةً، وهذه الإيجابية المفرطة ينتج عنها الاحتراق النفسي كتحصيل حاصل، كونها تهاجم نفسها بنفسها.

فالآخر، كان دائماً المقولة الأساسية لعلم المناعة.. لكن مع تغير الظروف، تتحول تلك المناعة إلى نوع من الإيجابية المفرطة، هذه الإيجابية تتميز بسلاسة وسيولة لا مثيل لها، وعلى عكس الفكرة المناعية الموجهة تجاه الآخر، فإن الايجابية المفرطة موجهة نحو الداخل، نحو الذات نفسها، فيحدث حينها الاحتشاء العصبي والاحتراق النفسي.

يُناقش بعد ذلك بول مفهوم فوكو عن المجتمع التأديبي، فالقرن العشرين ليس كقرننا الحالي، إذ انتهى زمن السجون والمصحات النفسية وغيرها من صور المجتمع التأديبي الماضية، ما نعيشه الآن هو مجتمع ما بعد تأديبي يتخذ من الإنجاز أداةً للقمع، مجتمع الإنجاز هو الوليد الشرعي والتطور القسري لمفهوم مجتمع التأديب، فالمصحة النفسية والسجن تطورت لتغدو مكاتب العمل والأندية الرياضية وأمكنة الحصول على الألقاب والأوسمة.

فـ «لا» القمعية التي كان لها الأولوية في مجتمع التأديب، استبدلت بـ «ينبغي» الإنجازية. وهذا كتحصيل حاصل ينتهي بمصب الاكتئاب الكبير والاحتراق النفسي، فلو سألنا أحد مصابي الاكتئاب لا بد أننا سنسمع منهُ عبارة «لا أستطيع فعل شيء». إلا أن هذه الجملة تحديداً لا تأخذ معناها إلا في مجتمع الإنجاز خاصتنا الذي يرفع شعار «كل شيء ممكن» وقابل للتحقيق.

ليغدو حينها الاحتراق النفسي مجرد حرب داخلية على النفس، حرب تتمظهر في الرغبة في أن تكون قادراً على أن تكون قادراً! ليؤدي بعدها هذا التوبيخ المدمر للذات لاحتراق نفسي، لتجد النفس حالها في مواجهة دائمة مع نفسها.
يترافق فرط الإيجابية المرضي اللامناعي مع سمة ظاهرة جداً وهي التشتت والبعد عن التأني، وكلما زادت كمية التعددية المهامية ضمن مجتمع ما كلما زاد القرب عن الحيوان والبعد عن الإنسان، فالحيوان لا يستطيع الاستغراق في التأمل الفردي، بل يكون دائماً في حالة نشطة من التشتت وتعدد المهام، فهو يتناول وجبته الطعامية من جهة، وينتبه للأعداء المحتملين في البراري من جهة أخرى، إضافةً لأنه يحمي صغاره المحيطين به، ويحاول أن يكون دائماً بجانب أنثاه وشريكته الجنسيّة.

لا تتاح للحيوان رفاهية التأني ولا الاستغراق في شيء ما، بينما الإنسان هو من فعل ذلك وعلى هذا التأني نشأت الكثير من التوجهات الفكريّة الكبرى، أما الآن فالإنسان بمجتمع التشتت بدأ ينحدر مجدداً، ليدخل في طور الاحتراق النفسي. ولهذا فرّقت الفيلسوفة هانا آرنت بشكل مباشر ما بين “الفعل” وما بين “العمل”. فالفعل مصطلح إنساني له دلالة معنوية، في حين أن العمل والعمالة أقرب ما تكون لجهود حيوانية تبذل في سياق عام طائش.

ولهذا منذ أكثر من قرن كان قد عنون نيتشه الموضوع باختصار قائلاً بأن نهاية البشرية ستكون من خلال «فرط النشاط القاتل» عندما يُعدم كل مكون تأملي فيها.

فجميع العلامات تصب في نفس السياق، وهو سياق الاحتراق النفسي، فالقمع والكبت الذي لطالما كان يراه فرويد كمشكّل وبنية صلبة للاوعي، فإن الأمراض النفسية الحديثة باتت على انفكاك معه، إذ أصبحت أمراضاً لا علاقة لها بالحرمان والإدمان، بل أمراض متعلقة بفرط الإيجابية والنشاط وانعدام التأني، حيث يُصبح الأساس هو الاستجابة الفورية لكافة المثيرات، ما يؤدي لحالة من التعب والاستنزاف النفسي الشديد.

في مجتمع الاحتراق النفسي لا يُحرم الإنسان من أن يكون سيد نفسه مثلما الحالة الاكتئابية العادية، بل يغدو في حالة من استغلال الذات الطوعي، وذلك بعدما يستبدل العنف الخارجي تجاه الدُخلاء كما في حالة المناعة في بادئة حديثنا، إلى عنف داخلي موجه للذات نفسها.

ففي وقتنا الحالي، لا سيما مع سيطرة الرأسمالية العالمية، فالمهم فقط هو البقاء وليس الحياة الطيبة. بل فكرة الحياة نفسها بحد ذاتها، وذلك في ظل وهم من أن رأس المال يساهم في إنتاج المزيد من الحياة، بالتالي استمرارية الوجود والبقاء. ليغدوا في النهاية ما نعيشه مجرد اختزال لعمليات حيوية وبيولوجية، تغدو فيها الحياة نفسها لا تطاق، تغدوا فيها الحياة عارية عن سرديتها الخاصة، مُجردة من فكرة العيش، جاعلةً من مجتمع الاحتراق النفسي مظلة لما كان ويكون وما سيكون فيما بعد.