فادي عمروش
فادي عمروش

د

وهم النصيحة الصحيحة

من منّا لم يجد نفسه يومًا بين مفترق طرقٍ، وكان بحاجةٍ ماسّةٍ لطلب النّصيحة ليستطيع أن يختار أيّ طريقٍ يجب عليه أن يسلكه؟ حتمًا معظمنا مرّ بهذه التّجربة، وبعدها وجد نفسه في حيرةٍ من أمره مِمَن يجب أن يطلب النّصيحة؟ الأمرُ شائكٌ، وحسّاسٌ جدًّا، هو مُعقّدٌ على سهولته فقد يعود أحيانًا بالكوارث على الشّخص في حال استمع إلى نصيحة من ليس أهلًا للنّصيحة!

في حديثه إلى مجلّة “نيويورك تايمز” يستفيض الكاتب، والمؤلّف الأمريكي، “آدم غرانت” صاحب الكثير من الكتب، والمؤلّفات الفكريّة، والإداريّة، والذي يعمل أستاذ جامعي في كلية الأعمال “وارتن” ونال جائزة أفضل أستاذ فيها، بالحديث عن إعطاء النّصائح، وكيفيّة طلبها، ويدعم حديثه بأمثلةٍ واقعيّةٍ نعايشها يوميًّا ونراها بشكلٍ ملحوظٍ، بل قد نمرّ بها شخصيًّا من غير أن ندرك ذلك، فأحيانًا نلجأ إلى طلب النّصيحة، والمشورة من بعض المقرّبين منّا، أو من بعض الأشخاص الذين نثق بهم، ونثق في خبراتهم، وفي آرائهم، وحكمتهم، ولكن ينتهي بنا الحال إلى أن نصل إلى اتّجاهاتٍ خاطئةٍ، فمثلًا حاول شقيق “والت ديزني” وزوجته بإقناعه في التّخلّي عن فيلم “بياض الثّلج”، تخيّل معي ماذا لو سمع بنصيحتهم، هل ستكون إمبراطوريّة “والت ديزني” موجودة الآن؟ أشك في هذا.

يرى “آدم غرانت” من وجهة نظره في علم النفس المؤسساتي، أنّه يكمن السّبب وراء بعض النّصائح المهنيّة المُضلِّلة في من نطلب منه المشورة، إذ نطلب المشورة غالبًا من الأشخاص الخطأ، فمثلًا ينتظر الكثير من الطّلاب التّوجيهَ من آبائهم، ومن أجدادهم مُتناسين أنّ هؤلاء الآباء، والأجداد قد نشؤوا في زمانٍ غير زمانهم، وأنّ بعض ما كان مألوفًا في زمان الآباء لم يعد منطقيًّا في زمان الأبناء، فلكلٍّ زمانٍ خصوصيّته، وطريقة عيشٍ مُنفردة يتحكّم بها موارد كلّ عصر، وخبرات أفراده، وظروفهم.

يهتم الناس بشكل عام بأن تكون نسخة منهم، وإذا كانوا يهتمون بك فلا يعود السبب بذلك لدعمك لتحقيق ما تريد وإنّما لتحقيق ما يريدون، أو لتكون نسخة منهم بأفضل الأحوال، أمّا حين يسدون النصيحة لك، فهم يسدون النصيحة لك لاتباع ما هو صحيح بوجهة نظرهم، وما هو بصحيح بوجهة نظرهم هو ببساطة ما قاموا به فقط أو لم يقوموا به !

كثيرًا ما نقول إنّنا سنأخذ رأي من نثق أنّهم أصحاب الخبرة في أمرٍ ما، ولكن ينتهي بنا المطاف ونحن نطلب المشورة، والرّأي من الأشخاص المقرّبين، أو الدّاعمين بغض النّظر عن خبرتهم.

على سبيل المثال تذكَّروا معي برنامج المواهب ذا فويس هل تذكرون كيف كان المتسابقون يختارون مدربّيهم؟ أُجريت دراسةٌ إحصائيّة على المئات من أصحاب المواهب، وكانت النّتيجة أنّهم اختاروا المدرّب الذي أمطرهم بعبارات الثّناء، والتّشجيع، والتّحفيز، أي لم يكن اختيارهم مبنيًّا على قرارٍ موضوعيٍّ، فمثلًا لم يفكّروا في المُدرّب الذي فاز فريقه، ولمَع في إحدى السّنوات الماضية! هم اختاروا مُدرّبهم بناءً على قرارٍ عاطفيٍّ، وحماسيٍّ.

كيف تفسد العاطفة والنرجسية نصائحنا؟

يقول الكاتب حين كان يعمل في أحد المُستشفيات وجد أنّه عندما كان يحتاج مختصّو الرّعاية الصّحية إلى المشورة، والدّعم، كانوا يلجؤون إلى زملائهم المقرّبين منهم بدلًا من أن يلجؤوا إلى زملائهم أصحاب الخبرة.

حتى إذا ذهبنا إلى الأشخاص المؤهلَّين فليس هناك ما يضمن أنَّهم سيعرفون ما المناسب لنا؛ فكثيرًا ما يقع المستشارون فيما يسمِّيه علماء الاجتماع بنرجسيَّة المحادثة فيُركِّزون بشدَّةٍ على تفضيلاتهم، وخبراتهم الشَّخصيَّة بدلًا من التّركيز على الشّخص الذي يحتاج النُّصح، وما يُناسب توجّهاته، وأفكاره، أي يتكلّمون من منظورهم هم.

هذه التّفاصيل الصغيرة بمحتواها الظّاهري، والكبيرة في عمقها تجعل منّا أشخاصًا قلقين، لا نثق في نصائح الغير، وهذا شبيهٌ بعدم القدرة على معالجة المُعطيات، فلا نستطيع التّمييز بين النّصائح الجيّدة، والنّصائح غير الجيّدة، وهنا يكمن الدّور الحسّاس للمُختصِّ النّفسيِّ، المُختصّ المؤهّل بما يكفي ليُدرك تمامًا أنّ ما يحتاجه الشّخص منه ليس النّصائح المُباشرة، أي لا يحتاج منه أن يقول له افعل كذا، ولا تفعل كذا، ليس مطلوبًا منه أن يقول له ما يفعل إنّما عليه أن يساعده في تدريبه لتصبح عمليّة تفكيره أفضل، ويُساعده على تغيير منظوره نحو الأمور للوصول إلى نتائجَ جيّدةٍ بشكلٍ حقيقيٍّ، ودائمٍ.

نصح الآخرين يحفزنا للنجاح

أظنّ أنّنا في مرحلةٍ ما من حياتنا وجدنا أنّنا نمتاز بحكمةٍ بالغةٍ في تقديم النّصح للآخرين، بينما لا نستطيع أن نساعد أنفسنا، وذلك لأنّ المسافة بيننا وبين مشاكل الآخرين أكبر من المسافة بيننا، وبين مشاكلنا، وهذا ما يُعرف في علم النّفس بمفارقة سُليمان.

للحصول على النّصيحة قدّمها!

إنّ أحد أكثر الطّرق فاعليّةً في الحصول على الخبرات الحياتيّة التي تؤدّي لاحقًا إلى زيادة الحكمة، هو تقديم النّصائح، إذ يجد علماء النّفس أنّه يُصبح تفكيرنا أكثر حكمة حين نفكّر في مشاكلنا من منظور الشّخص الثّالث!

إنَّ تقديم المشورة للآخرين لا يساعدنا فقط في اتّخاذ قراراتٍ أفضل، بل يجعلنا أيضًا أكثر حماسًا للتّميّز، والتّطوّر، ففي إحدى التّجارب عندما تمَّ اختيار بعض طلَّاب المدارس الثَّانوية بشكلٍ عشوائي لتقديم المشورة للطّلاب الأصغر سنًّا منهم حول كيفيَّة البقاء متحمِّسين في المدرسة، تحسَّنت درجات الطّلاب الذين قدّموا النّصيحة بشكلٍ ملحوظٍ.

سياق النصيحة أولاً

لا يمكن فهم النصائح والحكم على منطقيتها دون سياقها.

يقيد حب الآخرين والخوف من فشلهم نصائح الناصحين خاصةً لو كانوا صادقين، فينصحوهم بأكثر الأمور أماناً وبم لا يعود عليهم باللوم لاحقاً، وقد ترعبه ثقة الجموع به فتتجه دون دراية لمجال ما، فصرخ فزعاً ويشدد على إخبارها بخيرية الخيار الثاني، لا لشيء سوى اتقاء شر اللوم ومغبة العذل في المستقبل لو فشلوا في مسعاهم الذي وجههم إليه.

مثلاً شخصياً، روّجت طوال عمري للعمل الحر المستقل وأقوم بحملات مناصرة له لكن حين يسألني أي شخص بالتحوّل إليه أنسى كل مناصرتي وأنصحه بالوظيفة الثابتة، نفس الأمر عن الدراسات العليا وغيرها من الأمور التي لا تناسب الجميع بالتأكيد.

لذا…

افهم سياق النصيحة وتحيزات صاحبها، واطلب النصيحة من أصحاب الخبرة الواعين لخطورة النصيحة في تغيير مجرى حياتك، وثق بهم بناء على خبراتهم لا عاطفتهم، والأهم افصل جدوى النصيحة عن عاطفة الناصح فحب الشخص ورغبته في نجاحك لا يعني أن كلامه صحيح

أخيرًا، لا تطلب نصيحةً بشكلٍ عشوائيٍّ من أيّ أحد، وإن دعتك الحاجة النّفسيّة إلى المُشاركة، لا تكن مُضطّرًا للعمل بكلِّ ما تسمع، استمع للآخرين متى شئت، وتعرّف إلى تجاربهم، وإلى طريقة تفكيرهم، لكن لا تُكن رهين نصائحهم، فقد يضيع عمرك بأكملهِ بسبب كلمةٍ، أو بسبب قرارٍ خاطئ قد اخترته بناءً على مشورةٍ خاطئةٍ، فكن ذا حكمةٍ في التّمييز بين القرارات العقلانيّة، والقرارات الحماسيّة.

أي أن نصيحتي الوحيدة في هذا قم بطلب المعلومات لا النصائح، ثم خذ قرارك بنفسك فأنت حكيم ذاتك وقبطان رحلتك، ولن تلوم نهاية المطاف إلّا نفسك.