حمود الباهلي
حمود الباهلي

د

في مدح الملل!

كتب الفيلسوفُ البريطاني بيرتراند راسل كتاباً بعنوان “في مدح الكسل” مجادلاً أنه من الخطأ ارهاق الناس بأعمال مضنية، سيراً على خطاه اكتب هذا المقال مجادلاً أن الملل ليس بالسوء الذي يتصوره الناس.

الملل .. الوحش

أصبح إدامةُ النظر لشاشة الجوال سلوكاً معتاداً في حياتنا اليومية، نبحث في شاشة الجوال عما يُذهب الملل من لحظتنا الحاضرة، قد تكون بمشاهدة فيديوهات لأشخاص لا نحبهم في السناب شات، أو نقرأ في هاشتاق بتوتير عن قضية لا تهمنا بتاتا.

ليس بمستغرب أن يدعي مدير في شركة  أثناء اجتماع عمل أنه يريد دورة المياه، لكنه في الواقع يبحث هناك في شاشة جواله عن ما يذهب الملل من نفسه من حديث العمل الجاف(برأيي لا يوجد شيء أكثر جفافاً من جداول أكسل)، قد تُدعى أمٌ لحضور حفل تكريم ابنتها في المدرسة، عندما تبدأُ  فقرات الاحتفال، تدس يدها في محفظتها باحثة عن الجوال، تريد أن تطرد الملل بتصفح تطبيق ما، الشاب الذي يقف أمامه شخصان في  مقهى منتظرين الحصول على طلبهما، لا يستطيع أن يمنع يده من تصفح الجوال، فهو لا يطيق الانتظار خمس دقائق، لأنها ملل!
تجتمع مع فتاة مع صديقتها التي لم ترها منذ أشهر في مطعم، ما أن تنشغل الفتاةُ بتصفح قائمة الطعام حتى تتوجه الثانيةُ نحو جوالها تتصفح الانترنت، فهي مثلنا لا تستطيع أن تتحمل دقائق من دون الاتصال بالإنترنت.

هل الملل لهذه الدرجة من الوحشية بحيث لا نستطيع مقاومته؟  هل من الصحي أن يظل الواحد منا متصلاً دائما بما يُرفه عنه؟

من أين يأتي الملل؟

(الممل/ السأم/ الرتابة) معاني تقترب من بعضها، تتعلق بفتور النفس من تكرار ممارسة شيء ما، فنرفه عن أنفسنا بكسر الروتين وتجربة شيء جديد.

 كان الملوكُ في الماضي يملون من قصورهم الفارهة فيتوجهون إلى البرية للتنزه، يطرد المسافرون العرب السأم عن أنفسهم خلال الرحلات الطويلة في الصحراء بالحُداء، في الزمن الحاضر، يقضي سُكان البلدان الباردة إجازاتهم الصيفية في البلدان الحارة فيما يقضي أهل البلدان الحارة إجازتهم في البلدان الباردة.

كلنا نفعل نفس السلوك، نطرد الملل من حياتنا بتجربة شيء جديد حتى لو كان هذا الجديدُ غير مفيد أو ممتع، فالهدف هو كسر الروتين.

كسرُ الروتين مهم جداً للصحة النفسية، لأنه إذا تعرض الواحد لفترة طويلة من الملل فقد يُصاب بالاكتئاب.

لكن المرفهات عن النفس إذا استخدمت بكثرة، تفقد تأثيرها في طرد الملل.

من أمضى فترة طويلة من دون أن يأكل في مطعم، سيجد تجربة الأكل في المطعم جميلةً وتُحسنُ من مزاجه النفسي، لكن من اعتاد على الذهاب إلى المطاعم لن يجد في هذه التجربة فارقاً كبيراً.

الترفيه في الانترنت سلاح ذو حدين

نتصل بالإنترنت على نحو دائم لأغراض عدة، تواصل مع أقارب، نتسوق، نتتبع أخبار، لكن الجزء الأكبر من أوقاتنا في الإنترنت نقضيه في الترفيه، ألعاب فيديو، مقاطع فيديو في الواتس أب، مشاهدة أفلام ومسلسلات وغيرها.

هذا شيء غير مسبوق في تاريخ البشرية، فتاة من الطبقة الكادحة في لندن سنة 2020 لديها من وسائل الترفيه أعظم من الملكة فيكتوريا التي بلغت بريطانيا في عهدها أقصى مجدها السياسي.

الشاب العربي الذي لديه حسابات في نتيفليكس واليوتيوب والسناب شات لديه ما يرفه عن نفسه أعظم من الحجاج الثقفي الذي كان أقصى ترفيه لديه هو منادمة شاعر وشرب لبن! هل تصورت كم حياته بائسة مقارنة بحياتنا.

بالمقابل اتصالنا الدائم بمرفهات الانترنت أيا كان نوعها لكسر رتابة اللحظة الحاضرة، أضعف كثيراً من تأثيرها.

من يشاهد حلقة في الأسبوع من مسلسله المفضل سوف يكون لها تأثير كبير علي تحسين مزاجه النفسي أكثر مما لو شاهد عدة حلقات في نفس اليوم، كذلك تفعل تطبيقات الجوال مع شعورنا بالملل.

كلما قضينا وقتاً أطول في المرفهات التي يوفرها الانترنت تجنباً للممل، كلما زاد شعورنا بالملل وضعفنا عن تحمله.

الملل والابداع:

للملل فضلٌ كبيرٌ في تطور البشرية، فالتنوع في الأكلات مصدره أناس يملون من أكله معينة فيبتكرون غيرها، ينطبق نفس المبدأ على التنوع في الملابس والمباني والاختراعات،

نحن مدينون للملل بالكثير من التحسينات في جوانب حياتنا.

لو لم يشعر أسلافنا بالملل مما لديهم، فمن المتوقع أن نعيش في نفس المستوى المعيشي الذي عاشوا فيه.

الأشخاص الذين يتكيفون بسرعة مع الروتين، عادة ما يكونون أبعد من غيرهم عن الإبداع.

هل لاحظت قلة الأفكار التي تراودك أثناء الاستحمام الصباحي؟ مرد ذلك أن عقولنا لم تعد تشعر بالملل، فلدينا طوفان هائل من المعلومات ومحتويات الترفيه مما يُشغل عقولنا عن التفكير الإبداعي.

الملل والمهارات الاجتماعية:

قلل توفرُ الانترنت بسهولة من حاجتنا لتطوير مهارات التواصل الاجتماعي التي كانت تسعفنا للهروب من الملل.

عندما لم يكن لدى أسلافنا المرفهات التي لدينا، طورا مهارات اجتماعية في اللعب والرقص والأحاديث للترفيه عن أنفسهم، تخيل أناسٌ يقضون ساعات في الصحراء يلهون بألعاب من الحصى وعظام الحيوانات!

 قارن حالهم بحال شباب اليوم الذي ما إن يشعر بأي نوع من الملل في المكان حتى يسارع إلى جواله باحثا عن مرفه، ضارباً صفحاً عن محاولة تكوين أي تواصل مع من حوله.

عُرف عن الفتيات من أي عرق في تاريخ البشرية أنه لا تجلس فتاتان بجانب بعضهما من دون حديث مشترك بينهما، لكن مع وجود الانترنت، اختفت هذه المهارة، حتى يمكن أن تجد حالياً في مكان واحد عشر فتيات من دون أن يتحدثن مع بعض، فقد وجدت الفتاة في الانترنت ملاذاً عن الشعور بالملل وكسره بالحديث مع فتاة أخرى.

حادثة شخصية مع الملل!

راسلني قبل أسبوعين أ. عبد الرحمن عرفة، عارضاً علي خانة لكتابة مقال في مدونات أراجيك، واقفتُ، لكن كلما جلستُ أمام شاشة الكمبيوتر مفكراً في مقال، يدفعني المللُ بعد دقائق للبحث عن شيء ترفيهي في الانترنت، مضت الأيامُ من دون كتابة حرف. حتى حصلتُ على موعد عند طبيب أسنان، ولم يكن لدي اتصال الانترنت، فلم أدر ماذا أفعل في لحظات الانتظار، فكرت في قراءة المنشورات الطبية في المستوصف، ثم عدلتُ عنها، فلا يوجد عاقلٌ يجد متعةً في قراءة منشور طبي.

لم أدر ماذا أفعل؟ مرت الدقائقُ بعد الدقائق وشعوري بالملل يزداد حتى كتبتُ على ورقة بجانبي (ملل.. ملل ماذا أفعل؟) ثم جاءت فكرة كتابة هذا المقال.

لماذا نحتاج الملل؟

كما كتبتُ في بداية المقال، التعرض لفترة طويلة للملل ضار على الصحة العقلية والنفسية، لكن قليلاً منه ضروري لنجد متعة في باقي جوانب حياتنا ونستمد منه أفكاراً إبداعية ونطور مهاراتنا الاجتماعية بالتواصل مع الآخرين.