فادي عمروش
فادي عمروش

د

ثورة اللامركزية والبلوكتشين

تركِّز وسائل الإعلام عادةً للأسف على الحالات الاستثنائيَّة، وتتفاعل لخلق ضجيجٍ، وخاصَّةً مع ارتفاع سعر عملةٍ رقميَّةٍ ما، أو انهيار سعرها دون التَّركيز على الهدف الأساسيِّ الذي تدور حوله التَّقنية، و يقع النَّاس للاسف في فوضى هائلةٍ من المعلومات المضلِّلة، أو المعلومات التَّسويقية التي تهدف إلى جمع الزِّيارات منهم، أو بيعهم وهم الثَّراء السَّريع، بينما يتحاشى الكثير الحديث عن اللامركزيَّة، وسلسلة الكتل لأنَّ الحديث يتحوَّل مباشرةً إلى سؤالٍ ساذجٍ مثل هل أشتري، هل سأصبح غنيَّاً، وما إلى ذلك من الأسئلة السَّاذجة التي تحوِّل موضوعاً تقنيَّاً إلى ضربٍ من ضروب القمار للأسف.

وهنا نقف عراةً من أيِّ فهمٍ أمام سلسلة الكتل (البلوكتشين)، فما هي؟

قبل أن نبدأ بالغوص عميقاً لا بدَّ من الوقوف على بعض المفاهيم، والوقائع التي أدَّت بشكلٍ، أو بآخر لخلق الحاجة للبلوكتشين، فلا يمكن فهم تفاصيلها، وأهمِّيتها دون المرور على أخطاء، وعثرات النِّظام الماليِّ، والرَّقميِّ ما قبل سلاسل الكتل، وهنا تظهر السِّمة الأبرز ألا وهي مركزيَّة المال، والبيانات.

المركزيَّة في العالم الماليِّ، والرَّقميِّ

نشأت تقنية سلسلة الكتل مثل انقلابٍ على مركزيَّة العمليَّات المعلوماتيَّة، لتكون سمتها الرَّئيسة هي اللَّامركزيَّة في المعاملات الرَّقميَّة.

حين نتواصل، أو نتفاعل مع أيِّ نظامٍ معلوماتيٍّ حاليٍّ نحتاج إلى كمبيوترٍ مركزيٍّ (سيرفر) يستلم البيانات، ويعيد توجيهها، ممَّا يجعله مطَّلعاً عليها وقادراً على التَّحكُّم بها، أي أنَّنا لا نستلم ما هو مرسلٌ لنا بل نستلم نسخةً مطابقةً له، وطبعاً قد لا يكون ذلك لطيفاً في حال إرسال البيانات الحسَّاسة، أو الصُّور الشَّخصيَّة الخاصَّة، أو أسرار الشَّركات، لأنَّ مركزيَّة السِّيرفرات تعني إمكانيَّة اختراقها وبالتَّالي التَّلاعب بهذه البيانات، وسرقتها، ينطبق ذلك على كلِّ وسائل التَّواصل الاجتماعيِّ التي تعتمد في عملها على سيرفراتٍ مركزيَّةٍ لتنظيم بيانات مستخدميها، فيرسل المستخدم رسالةً لصديقه تمرُّ من خلال سيرفرٍ مركزيٍّ يعيد إرسالها إلى هذا الصَّديق.

فتصبح البيانات -حتَّى لو آمنَّا الحماية الكاملة لها، وعدم الاختراق- في خطر الاستخدام من قبل شركات الإعلانات، أو الإحصاءات، أو أيِّ طرفٍ آخر مهتمّ بشراء هذه البيانات لأغراضٍ تجاريَّةٍ، أو غير تجاريَّةٍ أو لأسبابٍ تجسُّسيَّةٍ بحتةٍ، ولو شكَّكت بهذا عزيزي القارئ فانظر موجات الغضب من الحكومة الأمريكيَّة، وتهديدات الحظر والمنع لتطبيق تيك توك المتَّصل مباشرةً بسيرفراتٍ مركزيَّةٍ صينيَّةٍ ما يضع الأمن القوميَّ الأمريكيَّ في خطر التَّجسُّس، وتتبُّع آراء الأمريكيِّين، وربَّما التَّأثير على أفكارهم بإعلاناتٍ موجَّهةٍ تناسب عقليَّة كلِّ فردٍ فيهم بناءً على بياناتهم.

تتكرَّر المركزيَّة في المعاملات الرَّسميَّة لاستخراج الوثائق الموجودة في سيرفرٍ مركزيٍّ واحدٍ، لا بدَّ من الولوج إليه،ومراسلته، وطلب وثائقك منه ثمَّ إرسالها، ممَّا يجعل الحكومة هي المتحكِّمة الوحيدة ببيانات المواطنين، وقد يكون الأمر هيِّناً في بلدٍ ديمقراطيٍّ حكومته شفَّافة لكن ما مصير الشُّعوب في بلادٍ تحكمها نخبةٌ ديكتاتوريَّةٌ قد تمحي أقلِّيَّاتٍ، وتغيِّر ديموغرافيا منطقةٍ بأكملها دون محاسبةٍ، أو مساءلةٍ ممَّا يلحق الضّرر بالكثير والكثير من المواطنين دون قدرتهم على إثبات أحقِّيتهم، أو ملكيَّتهم، أو حتَّى هويَّتهم التي تصبح موضع شكٍّ، وخلافٍ.

قد تتحوَّل المركزيَّة لخدمةٍ يجرى بيعها أيضاً، البنوك وشركات التَّحويل ليسوا إلا سيرفراتٍ مركزيَّة للأموال يمكن نقل المال من خلالها من مكانٍ إلى آخر وفق فروع البنك المتواجدة في كلِّ مكانٍ، أو عبر شركائها من شركات التَّحويل، ممَّا يجعل ميِّزتها الوحيدة هي المركزيَّة، والضَّمان التي استطاعت تحويلها إلى قيمةٍ حقيقيَّةٍ، ولو تجرَّأنا لقلنا إنَّ الكثير من الخدمات هي رابطٌ ومنصَّةٌ بين البائع والمشتري ليس إلا، مثل أوبر لتوصيل السَّيَّارات، أو منصَّات العمل الحرِّ، أي أنَّها تبيع مركزيَّةً، وضماناً، وقناة عبورٍ تجمع الطَّرفين لا أكثر، وتأخذ عمولتها لقاء ذلك.

لكن ماذا لو كان هناك آليَّةٌ للتَّواصل، وإنجاز المعاملات الرَّقميَّة دون سيرفرٍ مركزيٍّ؟

 تخيَّل لو أنَّ السِّجلَّ المركزيَّ الخاص بملكيّة عقارك موجودٌ في جهةٍ مركزيَّةٍ واحدةٍ يتواجد في مجموعةٍ كبيرةٍ من الأجهزة لديها سجلٌّ عقاريٌّ موحَّدٌ تتشاركه فيما بينها! ستختفي الحاجة إلى سيرفرٍ مركزيٍّ يعتمد عليه الجميع، وسيكون نقل البيانات أسرع، وسيتحول حفظ البيانات إلى عمليَّةٍ تشاركيَّةٍ، وستكون قادراً على الوصول إلى سجلِّك العقاريِّ المثبت في عددٍ أكبر من السِّيرفراتٍ، وإثبات ملكيَّتك لعقارك ممَّا يحمي حقَّك من الضَّياع، أو الفقدان بتعطُّل السِّيرفر المركزيِّ.

اللامركزية مقابل المركزية

 هذه الفكرة الثَّوريَّة هي فكرة سلسلة  الكتل، وهي تتلخَّص بتحويل التَّبادل المعلوماتيِّ إلى شبكات النِّد للندِّ، أي يكون التَّواصل بين كياناتٍ مباشرةٍ دون وسيطٍ بينهم، دون سيرفراتٍ مركزيَّةٍ، وخوفٍ على البيانات من التَّزوير، أو مخاوف الخصوصيَّة.

كيف سيكون شكل العالم دون وسطاء خدمة، أو وسطاء توظيف، دون عمولةٍ وساطةٍ، أو سمسرةٍ؟ ستختفي شركاتٌ، وتنشأ عشراتٌ غيرها، سيتحوَّل النَّاس للثِّقة الرَّقميَّة وفق ما يضمن حقوقهم دون الحاجة إلى طرفٍ ثالثٍ يثق الطَّرفين فيه، وهنا تأتي سلاسل الكتل تحمل الحلَّ بين يديها.

إنَّ السَّبب الأوَّل لفشل المعاملات التِّجاريَّة بشكلٍ عامٍّ، والرَّقميَّة بشكلٍ خاصٍّ هو عدم الثِّقة، عدم الثِّقة بمطابقة مواصفات، أو جودة المنتج، أو الخدمة لرغبة العميل ممَّا يجعله يتردَّد في الشِّراء.

يكون الحلُّ ببساطةٍ في طرفٍ ثالثٍ ضامنٍ لحقوق الطَّرفين، ويفصل بينهم حال حدوث خلافٍ، وطبعاً يحتاج إلى جهدٍ، وموارد، وبالتَّالي حصَّةٍ، ورسوم، فتطول الحلقة وتزداد أسعار الخدمات والمنتجات، وقد يحدث التَّزوير رغم وجود طرفٍ ثالثٍ بتقييماتٍ وهميَّةٍ، أو مراجعاتٍ غير حقيقيَّةٍ تعظِّم من جودة الخدمة رغم رداءتها.

تطلُّ اللَّامركزيَّة مثل حلٍّ لأزمة الثِّقة في التَّعاملات مع أقلِّ قدرٍ من العمولة التي تذهب إلى تمويل الشَّبكة، والمنقِّبون، فلا يكون هناك طرفٌ ثالثٌ بل تجري العمليَّة بشكلٍ مباشر بين الطَّرفين، والأهمُّ من ذلك هو أقلُّ قدرٍ من المعلومات، وحفظٍ أكبر للخصوصيَّة فلا حاجة لمعرفة الأطراف لأسمائهم، أو كياناتهم، وطبعاً هناك ضابطٌ يحفظ حقَّ الطَّرفين بالعديد من الأدوات مثل العقود الذَّكيَّة على سبيل المثال.

ظهر مصطلح سلسلة الكتل (Blockchain) للعلن عام 2008 على يد مجموعةٍ مجهولةٍ تدعى “ساتوشي ناكاموتو” تمثِّل على الأغلب مجموعةً من الثَّائرين على المركزيَّة في المعاملات الرَّقميَّة، والماليَّة الرَّسميَّة، وغير الرَّسميَّة، وتمَّ تنفيذها لأوَّل مرَّةٍ عام 2009 لتكون جزءاً من عملة بتكوين الرَّقميَّة، إذ صُمِّمت آنذاك لتشفيرها إعلاناً لرفض الأموال التي تسيطر عليها الحكومات، والمصارف.

لو أردنا توصيف سلسلة الكتل، وتطبيقاتها بكلمةٍ، واحدةٍ لكانت ” اللَّامركزيَّة” ببساطةٍ.

تُعرَّف سلسلة الكتل تقنيَّاً بأنَّها نظامٌ لامركزيٌّ يتمُّ خلاله توصيل كلّ المستخدمين ببعضهم البعض مثل اتِّصال ندٍّ إلى ندٍّ أي ليس هناك نقطةٌ مركزيَّةٌ للسيطرة، ويتمُّ التحكُّم، والتَّأكُّد من صلاحيَّة المعاملات من خلال العقد الأخرى المتَّصلة بالنِّظام.

سيبدو المفهوم غريباً علينا لأنَّنا معتادون على فكرة المركزيَّة، والوسيط المركزيُّ لكن أصبح هذا المفهوم من الماضي في سلسلة الكتل، فالآن أنت وكلُّ مدقِّقي الشَّبكة (حرفيَّاً) من تقومون التَّدقيق، والحماية هذا يعني أنَّه لا يوجد شخصٌ، أو جهةٌ معيَّنةٌ -حكومةٌ، أو شركةٌ- يتحكَّم بالشَّبكة وهذا ما يجعلها خروجٌ جذريٌّ عن قواعد البيانات المركزيَّة التي تسيطر عليها، وتديرها الشَّركات، والكيانات الأخرى.

وهنا تكمن الفكرة الخلَّاقة في تنظيم الفوضى، تنظيم الجموع، والبيانات، والأموال دون عبثٍ أو تخريبٍ، أو فوضى، غالباً ما كانت الحجَّة الأقوى لأيِّ نظامٍ مركزيٍّ هي النِّظام بحدِّ ذاته، وضمان حقوق المستخدمين، ممَّا جعل المستخدمين يخضعون إلى شروط المركزيَّة رغم أنوفهم فليس هناك حلٌّ آخر، وكما رأينا أضحت المركزيَّة من عصا لحفظ أمن، واستمراريَّة الحضارة البشريَّة إلى عصا تخويفٍ، بل وعصا ترهيبٍ تفرض بها الحكومات والشَّركات الطَّاعة على من دونها بحجَّة أنَّها أدرى بمصلحتهم.

المصدر: كتاب ثورة اللامركزية والبلوكتشين